38serv
لا يمكننا الحديث عن مرجعية دينية دون علماء يمثلون هذه المرجعية، فهيبة المرجعية من هيبة العلماء، وقيمتها من قيمتهم، ووزنها من وزنهم. والعلماء كما نعلّم بشر يصيبون ويخطئون، وخاصة إذا أبدوا رأيهم أو شاركوا في قضايا الشأن العام وشؤون السياسة، وخطؤهم لا يجوز ولا يصح أن يكون سببًا في إسقاط هيبتهم، وتنفير الناس عنهم.لكن الواقع كما هو معلوم للجميع أنه منذ عقد من الزمان أو قريب من ذلك ازدادت حدة الهجوم على العلماء، والطعن فيهم، وتجريحهم، والتشهير بهم، والتحذير منهم، بل نشأت جماعات وتيارات لا هم لها ولا عمل إلا تصيد أخطاء العلماء والدعاة، ومحاكمة عقائدهم وآرائهم وأفكارهم، وإيغار صدور الناس - والشباب منهم خاصة - منهم، حتى سقط كل العلماء وسقطت هيبتهم وقيمتهم،فصار كل من هب ودب ولعب يسب العالم الفلاني، ويصنفه ويجرحه، ويصفه بأشنع النعوت، بل يحكم عليه بالنار تأليًا على الله عز وجل، حتى لم يعد يوجد عالم له شبه إجماع من الأمة، بل ما من عالم إلا وافترقت الأمة فيه بين من يراه من العلماء الربانيين وبين من يراه من العلماء الضالين. ثم نزل الأمر إلى أئمة المساجد، فتعرضوا هم أيضًا للتصنيف والتجريح والتحذير منهم والتنفير عنهم تحت شعارات براقة خداعة، حتى سقطت قيمة الإمام في نفوس الناس، وسقطت هيبة المنبر والمسجد من قلوب الجماهير، وزاد الطين بِلة: الضعف العلمي لكثير من أئمة المساجد، وضعف خطابهم ورسالتهم، بل السقوط الأخلاقي لكثيرين منهم للأسف الشديد. حتى وصلنا لأئمة صاروا ضحكة عند الشباب، ووصلنا إلى أنه لم يعد ثمة إمام يحظى بقبول عام إلا في النادر، وإلا فأغلب الأئمة انقسم الناس فيهم بين مؤيد ومعارض، بسبب تصنيفه واتهامه بالبدعة وغيرها من الاتهامات الجاهزة.لا أريد أن أتحدث عن ضلال هذا المنهج المخالف للقرآن الكريم، وللهدي النبوي ولهدي العلماء والأئمة من لدن الصحابة إلى يوم الناس، فيكفي أن القرآن الكريم علمنا العدل والإنصاف في الحكم على الناس حتى مع الكفار، اليهود والنصارى، قال سبحانه وتعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»، رواه الترمذي وابن ماجه.يكفي أن العلماء حذروا من الذين يتكلمون في العلماء، فقال الإمام أبو سنان زيد بن سنان الأسدي المالكي رحمه الله: “إذا كان طالب العلم لا يتعلم أو قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس، متى يفلح؟!”. وهذا حال كثير من الشباب الآن للأسف فما إن يبدأ يصلي حتى يتعلم يكره العالم الفلاني والإمام الفلاني والداعية الفلاني.. والعجيب أنه لا يعرفهم، وإنما قال له شاب: يجب أن تكرههم تقربًا إلى الله ففعل، وهذا القائل هو كذلك قيل له ذلك! ولا حول ولا قوة إلا بالله.ودخلت بعض وسائل الإعلام على الخط، وتماشيًا منها مع المنطق الإعلامي في اتباع منهج الإثارة طلبًا لمشاهدة أكثر أو مقروئية أكبر، صارت تحرص على تتبع سقطات العلماء ونشرها، أما إن وقعت على فضيحة أو شبه فضيحة لعالم أو داعية أو إمام فهي السبق الأعظم والغنيمة الباردة. ومثل ذلك إذا حدث خلاف بين عالمين في قضية دينية أو قضية سياسية. فبعض وسائل الإعلام تنفخ في هذا الخلاف وتطيله وتعرضه وتعمقه حتى ننسى ونحن نتابع أحداثه الدرامية كل مشاكلنا وكل قضايانا!.واستغل الوضع بعض أصحاب الإيديولوجيات المعادية للدين ولهوية المجتمع الجزائري كالعلمانيين والتّغريبيين و(أولاد فرنسا)، ولم يفوتوا فرصة القضاء على هيبة العلماء التي تعارض أهدافهم، وتهدد مشاريعهم، فأدلوا بدلائهم القذرة، ولم يدخروا جهودهم في تشويه العلماء!. وحصل مثل هذا في باقي الدول الإسلامية.والنتيجة النهائية لكل هذا: انفضاض الناس -وخاصة الشباب- عن العلماء والدعاة والأئمة إلا قليلًا، وراحوا بعد ذلك يبحثون بعيدًا عن إجابات لأسئلتهم، وسهلت لهم وسائل الاتصال الحديث ذلك، فوقعوا فريسة سهلة لدعاة الإلحاد والتشيع والقاديانيين (الديانة الأحمدية) والماسونيين والإباحيين وعبدة الشياطين... إلى آخر قائمة البلايا التي كنا نقرأ عنها وصارت تعيش معنا!وهذا الذي حدث هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الله لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسُئلوا فأَفْتَوا بغير علم فضَلُّوا وأضَلُّوا» رواه البخاري ومسلم.ولا يختلف منا اثنان أننا لم نكن نسمع بكثير من هاته الطوائف ولم نكن نأبه لها قبل حملة إسقاط العلماء والدعاة والأئمة، الذين كانوا يمثلون درعا متينا وحصنا حصينا في وجه فسادهم وإفسادهم، ولكن بعد أن مهد لهم التجريحيون دعاة الفتنة الطريق ومهدوا لهم السبيل بتشويه كل العلماء وكل الدعاة وكل الأئمة اقتحموا علينا الجزائر، وصاروا يهددون أمنها واستقرارها ووحدتها! فالذين أثاروا الشبهات والشكوك حول العلماء والدعاة والأئمة يتحملون القدر الأكبر في المسؤولية في هذه القضية، سواءً كانوا خائنين عملاء، أو كانوا مستغلين أغبياء! فالقضية واضحة، كانت الخطوة الأولى فيها: (تهديم مرجعية العلماء والأئمة)، وتلتها الخطوة الثانية: (تهديد مرجعية الأمة). وإنما الناس بعلمائهم فإذا سقطت قيمة علمائهم سقطوا!ولا بد أن أذكر في الختام أن الذين ينتهجون منهج الهجوم على العلماء، والطعن فيهم، وتجريحهم، والتشهير بهم، والتحذير منهم إنما يعارضون الله عز وجل في حكمه ويعاندونه في قضائه، فهم يريدون إسقاط العلماء والله يريد رفعتهم، كما قال جل في علاه: {يرفع الله الذين آَمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. والذين يحاربون العلماء إنما يحاربون ميراث النبوة، ففي الحديث: «... وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر».ولست أقصد قطعًا من ينتقدون العلماء بأدب طلبًا للحقيقة أو دفاعًا عنها أو تبيانًا لأخطائهم، فهم ليسوا معصومين، كما هو معلوم، وإنما أقصد الذين يريدون إسقاط العلماء وإسقاط قيمتهم وهيبتهم إلا ثلاث أو أربع، وهدم مكانتهم؛ فأسقطوا بذلك الأمة في مخالب الحركات الهدامة!*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات