38serv
إنّنا نعيش تحت تأثير كبير للحضارة الاستهلاكيّة العالميّة، الّتي تحرّك الإنسان وترشّده وتقوده من خلال دوافعه الاقتصادية النّفعية، ومن خلال غرائزه الفطرية، وخاصة الجنسية منها، حتّى فكّكت الإنسان تفكيكًا كليًّا، وصنعت منه (مخلوقًا) استهلاكيّا يقاد من بطنه وفرجه!وهذا ما جعل الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله يقول عن الولايات المتحدة الّتي تمثّل النّموذج المثال لهذه الحضارة، قال: “حين وصلت للولايات المتحدة بلد الحرية والديمقراطية سنة 1963 وجدت نفسي كارهًا لما حولي؛ إذ أحسستُ أنّي وصلت إلى (سوق كبير).. وبرغم حبّي لكثير من الأمريكيين (فهم شعب طيّب نشيط متفتّح الذّهن)، فإنّي وجدتُ النّظام المهيمن يجهض إنسانيتهم، ويخاطب أحطّ ما في الإنسان”، وأحطّ ما في الإنسان هو ما عبّرت عنه بأنّه يقاد من بطنه وفرجه!ولقد وقفتُ طويلاً عند قول الله عزّ وجلّ في سورة الجمعة: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِمًا. قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ. وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، لَمّا رأيتُ الآية تتكلّم بوضوح على: التّجارة واللّهو، كإشارة إلى النّزعة المادية ممثلة في عموديها الأساسيين الاستهلاك (التّجارة) والتّرفيه (اللّهو). وهما الجانبان اللّذان تضخّمَا في ظلّ الحضارة الغربية المادية، وهما أقوى سببين صرفَا النّاس عن الحقّ والهداية، وصرفَا البشر عن القضايا الهامة في حياتهم إلى الانغماس في طلب الكماليات والاهتمام بسفاسف الأمور. كما هو واضح من إشهارات الشّركات الكبرى الّتي تدفع النّاس إلى شراء ما لا يحتاجون، وإلى الحرص على نمط عيش لا ينفعهم. ومن الاهتمام الكبير بنجوم الفن واللاعبين، والمبالغ الخيالية الّتي يجنيها هؤلاء من نشاط لا فائدة حقيقية وراءه. فاقتصاديات السينما واقتصاديات كرة القدم مثلاً بلغت أرقامًا خيالية مع أنّهما من القطاعات غير الانتاجية.إنّ هذه الآية العظيمة تتحدّث عن واقعة وقعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيّد الدّعاة وإمامهم، حيث كان قائمًا على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت قافلة من الشّام تحمل مِيرة ومؤنًا، قال مجاهد: وكان من عرفهم أن تدخل قافلة الميرة بالطبل والمعازف والصّياح سرورًا بها، فدخلت القافلة بمثل ذلك، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائمًا على المنبر، ولم يبق معه غير اثني عشر رجلاً. وقال قتادة: بلغنا أنّهم فعلوا ذلك ثلاث مرّات؛ لأنّ قدوم العير كان يوافق يوم الجمعة. إذا استطاع تأثير التّجارة واللّهو أن يجذب بعض من كان في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويشغلهم عنه وعن الخير الكبير الّذي فيه، فكيف بغيره من الدّعاة؟!ما أسهل أن يشغل النّاس عنهم بمثل هذا. كيف وقد تطوّرت وسائل الدّعاية الاستهلاكية؟! وتطوّرت الوسائل التّشويقية والتّقنيات المستخدمة في الفنون والرياضة تطوّرًا مهولاً؟! كيف وقد بلغت ميزانيات قطاعات اللّهو والتّرفيه أرقامًا خيالية؟!لا شكّ أنّ أغلب النّاس سيقعون فريسة سهلة أمام هذه الآلة الجبارة. وهذا هو الواقع فقد انفضّ أغلب النّاس إلى اللّهو وإلى التّجارة، وولّوا القضايا الأساسية في حياتهم ظهورهم. وخاصة مسألة الهداية والضّلال حيث صارت هذه القضية المصيرية ثانوية عند كثير من النّاس! وما عادوا يسألون أنفسهم: هل نحن على هدى أم في ضلال مبين؟! وما عاد يهمّهم مصيرهم ونهايتهم، ولا النّار ولا الجنّة؟! وما عادوا يهتمّون أأرضوا الله عزّ وجلّ أم أسخطوه؟!... الخ. كلّ هذا بسبب سيطرة الرّوح الاستهلاكية المادية على كثير من النّاس.وغنيّ عن الذِّكر أنّ هذه الآية العظيمة جاءت ختام للسّورة الّتي تحمل اسم يوم الجمعة، وبعد الأمر بالسّعي إلى ذِكْر الله عند النّداء إلى صلاة الجمعة، الّتي يقول عنها سيّد رحمه الله: “وصلاة الجمعة هي الصّلاة الجامعة، الّتي لا تصحّ إلّا جماعة.. وهي صلاة أسبوعية يتحتّم أن يتجمّع فيها المسلمون ويلتقوا ويستمعوا إلى خطبة تُذَكِّرُهم بالله. وهي عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدّنيا والآخرة.. وهي ذات دلالة خاصة على طبيعة العقيدة الإسلامية الجماعية”. فصلاة الجمعة هي محطّة أسبوعية للتّقليل من ضغط المادية وللتّقليل من شرور الفردية، واللّهو والتّجارة عكسها، يغرسان الرّوح الفردية والمادية الاستهلاكية. وقد ذكرت السّورة قبل ذلك اليهود نموذجًا ومثالاً للإنسان المادي الحريص على التّجارة واللّهو، فلم ينفعهم الهدى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. فاعتبروا...*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات