38serv
لا يُعقل أن يوجد مسلم لا يعظّم اللغة العربية ولا يقدّسها! ولا يعرف لها قدرَها وشرفَها على باقي الألسن واللّغات! كيف وقد اختارها الله العليم الحكيم لغة وحيه الأخير للبشرية جمعاء؟! كيف وعبادة المسلم مهما كان عِرقه إنّما تكون بهذه اللغة تلاوة وصلاة؟! بل لا تصح صلاته - التي هي عماد الدّين - إلا بالعربية كما هو معلوم.إن المؤمن الصحيح الإيمان الراسخ اليقين وهو يتلو ويستمع قول الله تعالى في كتابه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ}، {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون}، {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُون}، {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} لا يجد نفسه إلاّ عاشقًا للعربية، حريصًا على تعلّمها، حريصًا على التكلم بها، آسفا أشد الأسف أَنْ كان جاهلا بها أو ضعيفا، فالعربية هي لغة إيمانه، ولغة قرآنه، ولغة عبادته، واللغة التي اختارها ربُّه العليم الحكيم من بين لغات الناس، وإلا ما معنى إيمان من يحتقر العربية؟! وينفر منها؟! بله من يعاديها ويفضّل عليها غيرها، وهي لغة الإيمان والقرآن؟!إن تعظيم العربية وتقديسها موقف إيمانيٌّ لا علاقة له بالعِرق والأصل، فالمفروض أنه موقف كلّ مسلم عربيًا كان أو غير عربي، وليس هذا موقفا إقصائيًا أيضًا، إذ لا يعني أبدا أن يغيّر المسلم العربي لغتَه، فيترك لغة قومه وعِرقيته ويستبدلها بالعربية، هذا أمر لم يقصد إليه الإسلام، ولم يدع له أبدا، وخير دليل على ذلك واقع الحال في مشارق الأرض ومغاربها التي حكمها الإسلام لقرون طويلة، حيث ما تزال اللغات أو اللهجات القومية لمختلف الأعراق والقوميات التي تمثل الأمة الإسلامية موجودة مستعملة، حتى اللهجات التي لا تتمتّع بميزات اللغات وتعتمد الشفاهية، وهي أشبه باللغات الميتة، ما تزال تستعمل شرقا ومغربا؛ لأن من عقيدة المسلم أن التنوع اللغوي آية من آيات الله تعالى كما قرّر في كتابه الحكيم: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِين}. هذا أمر بيّن واضح مفهوم.بيد أن غير المفهوم هو زهد المسلمين عربا وعجما في اللغة العربية، وتقصيرهم في تعلّمها وتعليمها، وتفريطهم في استعمالها، حتّى شاع اللحن والخطأ عند عامة المتكلمين بها، بل صار اللحن والخطأ أمرًا عاديا مقبولا عند الجميع، بل أقول: لقد صار الخطأ واللحن هو الأصل في كلّ من يتكلم بالعربية جاهلا أو متعلّما، عاميا أو من النخبة، أميا أو دكتورا أو (بروفيسورا)! إن من نكد الأيام وبؤسها أن تستمع لدكتور في اللغة العربية أو آدابها أو أديب كبير أو شاعر معروف أو روائي شهير أو إمام مذكور وهو يلحن اللحن الفاحش الفظيع، ويلُوك كلامًا بلغة شبيهة بالعربية، مشوبا بالدّارجة، مُرقَّشًا بألفاظ أعجمية!إنّ كثيرًا ممن احتلّ مقام (النخبة) في المجتمع بشهادة مشكوكٍ في نزاهتها، أو منصبٍ نِيل بطرق ملتوية، ركب حمار العامية الذَّلول؛ لعجزه عن الكلام الفصيح ليس إلا، وعجزه هذا إنما هو لضعف تكوينه وعدم تمكنه من فنه وتخصصه، فمن لا لغة له لا علم له ولا إبداع ولا أدب! ولكنهم يأتون بدعاوى عريضة لستر عورتهم، شعارها: نتكلم بالدارجة حتى يفهمنا العوام، وحقهم أن يقولوا صراحة: نتكلم بالعامية؛ لأننا عوام بشهادات ومناصب! وأحق من يؤكد ما أقول هؤلاء الغربيون الذين صاروا عند بعض بني قومنا حجة علينا في كل شيء! فهل سمعتم دكتورًا أو أديبًا أو شـاعرًا أو قسيسًا أو راهبًا أو مسؤولًا أو إعلاميا غربيا مهما كانت جنسيته يتكلّم في المؤسسات التّعليمية المختلفة أو الوسائل الإعلامية المتنوعة أو المنابر الرسمية المتعددة بالدارجة العامية؟! وهل سمعتم أحدًا من هؤلاء يتكلم فيلحن في لغته الوطنية الرسمية؟!إن مما يحز في القلب أن ترى الناس يضحكون على كل من يخطأ في اللغة الفرنسية، ولو في كلمة واحدة، أو تصريف فعل واحد أو تركيب جملة واحدة، حتى أن كثيرا ممن أخطأ في تهجية كلمة واحدة من لغة مستعمر الأمس نُبِز بتلك الكلمة، وصارت لقبًا شهيرا له، تُنسي النّاس اسمه العربي الجميل، والويل كل الويل لأستاذ أو مسؤول زلّ فأخطأ في تهجية كلمة واحدة من الفرنسية في مجمع من الناس! سيصير نكتة تتناقلها الأجيال، وضُحكة وهُزْءَة للحاضر والباد! ولكن العربية العظيمة يستبيح قدسيتها كلّ من هبّ ودبّ ولعب، ويلحن في تهجيتها اللحنَ الفظيع الجميع، ولا يُباليها أحد بالَه! وماذا هناك؟ مجرد خطأ في العربية؟ وما قيمتها؟ فليلحن فيها من شاء كما شاء! وليس غريبًا أن تسمع مسؤولا كبيرًا يتكلم بعربية أصوب منها كلام الأطفال في الروضة! وليس غريبًا أن تسمع أديبًا (كبيرًا) حائزًا على جوائز عدة، يلحن بلحن تلاميذ الابتدائي! وليس غريبا أن تسمع دكتورا أو بروفيسورا في العربية وآدابها يلحن لحنًا يتألم له الخليل وسيبويه والأصمعي في قبورهم!، وربما تفلسفوا بعد ذلك فقالوا: خطأ مشهور خير من صواب مهجور!! وما مثل من يقول قالة السوء هذه إلا كمن فقد ثيابه ولم يبق عليه غير قطعة صغيرة تستر عورته المغلظة، فجأ فخرقها بهذا القول الأخرق، الذي لا يقوله إلاّ أحمق ولا يصدقه إلاّ أبله! لماذا يستعظم أغلب الناس الخطأ في الفرنسية ويستهينون بالخطأ في العربية؟!، هذا هو السّؤال المؤلم، حقّا إنّ العربية لا بواكي لها! وقد ضيّعها أهلها مع أنّها محفوظة بحفظ الله تعالى لكتابه، وسترجع مهيمنة على اللّغات مهما تخلّى عنها قومها وتهاونوا في خدمتها، ما دام القرآن العظيم يقرأ في المشارق والمغارب! {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}، ومن حفظ الذّكر حفظ اللغة التي نزل بها كما هو واضح لكل عاقل. ومن مؤشرات هذا الزمن القريب الذي تعود فيه العربية غضّة طرية أن يتوقف الأساتذة والدكاترة عن قول: (يتواجد.. يساهم.. يبرر..)، وأن يتوقفوا عن إعراب (مع) حرف جر، وأن يتوقفوا عن كتابة: حذارِ.. خطأً: حذاري، ومساءَ.. خطأً: مساءًا.. الخ من الأخطاء الشّائعة! لنصل إلى أن يعتزّ المسلم بالعربية تعلّمًا وتكلّمًا، ليس لأنها لغة العرب بل لكونها لغة وحي الله تعالى وكتبه الحكيم: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات