المخطوط العربي الإسلامي أقوت للأرضة أم رسالة حضارة للعالمين

38serv

+ -

 إن موقع أي أمة بين الأمم تتبع عراقة حضارتها وعظيم إنجازاتها، إذ منها تستمد وجودها الحضاري، وبها تكتسب هيبتها وتقدير غيرها لها، ومن خلالها تتدفق معارفها وثقافتها، وذلك بالمحافظة عليها والعمل بمقوماتها.وإذا أردنا أن ننفذ بفكرنا ونظرنا إلى عمق أي حضارة، فإنه لا سبيل لنا إلا من خلال واحد من المداخل الثلاثة الآتية: 1- إما من خلال الآثار الماثلة للعيان، التي تنتصب شاهدة على عصرها وحضارة أهلها في حقبة زمنية معيّنة سحيقة في التاريخ أم قريبة من عصرنا. 2- وإما من خلال سلوك المجتمع وعاداته وتقاليده وتصرفاته المختلفة التي يتجلى جزء منها في الآثار التي تورثها تلك المجتمعات جيلا عن جيل، حيث يسهم الدين واللغة والعادات والتقاليد والموروثات الشعبية بقسط كبير في تشكلها. 3- وإما من خلال المدونات على اختلاف علومها، وتنوع مشارب مصنفيها، وهو ما يطلق عليه اسم المخطوط. ويعدّ هذا الأخير، أولى من غيره؛ لأنه أهدى سبيلا، وأفضل دليلا، وأكثر تفصيلا، وأحسن تأويلا، وأقوم قبلا.وقد كان لأمتنا في هذا الجانب حظ وفير، ولرجالها جهد كبير، فأورثونا تراثا معرفيا قوامه نحو خمسة ملايين مخطوط، إذا تحدثنا عن الذي كتب باللغة العربية فقط، أما إذا استوعبنا جميع اللغات التي كتب بها التراث الإسلامي، فإننا نتحد عن نحو سبعة ملايين، عدد لا أظن أنه سبق لأمة أن بلغته.إن هذا المخطوط الذي أريد به أن يكون عدة للمجتهدين، وذخيرة للمفكرين، ومرجعا للباحثين، وسراجا للسائرين في غياهب العلوم والحضارات، يجد نفسه اليوم حبيس خزائن أحكم إقفالها، وغرف غلقت أبوابها.ولو تأملت هذه الغرف، لوجدت أغلبها يفتقد إلى أبسط شروط الحفظ والصيانة المتفق عليها عالميا، وإلى جانب أنك لو حاولت طلب تصوير بعضها فقط، لوجدت نفسك أمام جملة من الشروط والقيود والتكاليف المالية ما يغدو صخرة تتحطم عليها كل آمال البحث والاجتهاد، بل إنك تلحظ في بعض البلاد إصرارا على تغييب أهم المخطوطات وأنفسها، والعمل دون وصولها إلى أيدي الباحثين تحت ذرائع وحجج واهية.ولا يغرنك الكم الكبير من صور المخطوطات المنشورة في المواقع الإلكترونية بأن جواهر التراث الإسلامي ونوادره أصبحت متاحة للجميع، والحقيقة غير ذلك، فالنوادر والفرائد وعيون التراث الإسلامي لا تزال نائمة في رفوفها ولم تسمح أغلب المكتبات بتصويرها ولا نشرها، ولا حتى الإعلان عنها وفي الغالب لا توضع في فهارسها، ومازلنا نطارد فرائد المخطوطات في مكامنها وبخاصة بعض جواهرها ككتاب النغم للخليل بن أحمد الفراهيدي، وكتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي، ومسند الإمام البخاري الذي يحتوي على مائة ألف حديث، والنسخة الكاملة لفهرسي النديم، وتفسير القرآن لأبي بكر بن العربي الذي يحتوي على نحو 80 مجلدا، وغيرها من عيون التراث الإسلامي التي يسعى الكثير من الناس حول العالم لاقتناصها.وأمام هذا الوضع المؤسف، تظل تلك النوادر مرتعا للأرضة والحشرات، تؤمّن بها قوتها جيلا بعد جيل، ويضيع مع ذلك القوت حصائد عقول رجال أفنوا أعمارهم في جمع فرائدها، وضم شواردها، وتقييد أوابدها، وتضيع مع الجميع حضارة أمة ما كان ينبغي التفريط فيها.وأمام هذا الوضع، استشعرت بعض المؤسسات والمراكز العامة والخاصة الخطر الداهم، فراحت تبذل كل نفيس من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه وصيانته من عوادي الزمان، وجعله في متناول الباحثين والدارسين. إلا أن هذه الجهود لم تكن هي الأخرى لتبلغ النتائج المرجوة في غالب الأحيان؛ لاصطدامها بعراقيل تحول دون استمرارها.وإذا أمعنت النظر في كل هذه الوقائع، راودك إحساس بأن هناك شيئا ما يحدث لقطع حبل الوصل بين الثقافة العربية والإسلامية وبين أبنائها. وإننا لندعو من خلال هذه المقالة، بكل إخلاصٍ، كل المكتبات العامة والخاصة، والمؤسسات الثقافية والشخصيات العلمية العاملة في مجال الثقافة والتراث، إلى تواصلٍ بنّاء وتعاون مثمر، يحفظ المخطوط العربي الإسلامي، ويخدم الباحث العربي والمسلم في إطارٍ يحفظ لكل طرف خصوصيته وحقوقه ومصالحه.. والله الموفق لما فيه الخير والصواب.* مدير تحرير مجلة “آفاق الثّقافة والتّراث”

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات