38serv
يقول الحق سبحانه: {فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذ تنظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مدينين، ترجعونها إن كنتم صادقين}. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: {فلولا إذا بلغت} أي: الروح {الحلقوم} الحلق، وذلك حين الاحتضار، {وأنتم حينئذ تنظرون} إلى المحتضَر وما يكابده من سكرات الموت، {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} بعلمنا وقدرتنا وملائكتنا، ولكن لا تبصرونهم، {فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها}: أي: فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ومقرها في الجسد إن كنتم غير محاسبين.في كتاب الروح ذكر ابن القيم رحمه الله أن الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا، وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبا منه، ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده ومعهم الأكفان والحنوط، إما من الجنة وإما من النار، ويؤمِّنون على دعاء الحاضرين بالخير أو الشر، وقد يسلمون على المحتضر ويرد عليهم تارة بلفظه وتارة بإشارته وتارة بقلبه، حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة، وقد سمع بعض المحتضرين يقول: أهلا وسهلا ومرحبا بهذه الوجوه، وأخبرنا شيخنا عن بعض المحتضرين فلا أدري أشاهده أو أخبر عنه أنه سمع وهو يقول: عليك السلام ها هنا فاجلس، وعليك السلام ها هنا فاجلس.وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضَرين أن عمر بن عبد العزيز لما كان في يومه الذي مات فيه قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت (ثلاث مرات) ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، ثم قرأ: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن، ثم قبض. وقال فضالة بن دينار: حضرت محمد بن واسع وقد سجي للموت، فجعل يقول: مرحبا بملائكة ربي ولا حول ولا قوة إلا بالله، وشممت رائحة طيبة لم أشم رائحة قط أطيب منها، ثم شخص بصره فمات، والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر وأبلغ.قال ابن القيم رحمه الله: ولقد أخبر بعض الصادقين أنه حفر ثلاثة أقبر، فلما فرغ منها اضطجع ليستريح فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفا على أحد الأقبر فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخا في فرسخ (والفرسخ ثلاثة أميال وهو ما يساوي أربع كيلو ونصف تقريبا) ثم وقفا على الثاني فقال: اكتب ميلا في ميل، ثم وقفا على الثالث فقال: اكتب فترا في فتر (الفتر ما بين الإبهام والسبابة) ثم انتبه فجيء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول، ثم جيء برجل آخر فدفن في القبر الثاني، ثم جيء بامرأة مترفة من وجوه البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سمعه يقول فترا في فتر، ثم قال رحمه الله: وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرزيز الحراني: أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان، قال: فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور، فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كوز الزجاج (موقد نار ملتهب يستعمله صانع الزجاج، فتنقلب فيه كتلة الزجاج جمرة متقدة)، والميت في وسطه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنا نائم أم يقظان؟ ثم التفت إلى سور المدينة وقلت: والله ما أنا بنائم، ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب القبر؟ فإذا به مكاس (صاحب المكس، وهو الذي يجبي الضرائب من الناس)، وقد توفي ذلك اليوم.فرؤية هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجن تقع أحيانا لمن شاء الله أن يريه ذلك، فإذا شاء الله سبحانه أن يطلع على ذلك بعض عبيده أطلعه وغيبه عن غيره، إذ لو أطلع عليه العباد كلهم لزالت كلمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس، ومن أحوال المحتضرين أن أحدهم قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها، وقال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلا عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر. والله ولي التوفيق.*إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات