38serv
الشعور بالانتماء لأمة شعور خاص، يثير في صاحبه معان جليلة ويحرك فيه مشاعر نبيلة، ويبعث فيه أملا وقوة وفاعلية، ويوسع آفاق نظرته للحياة، ومجال اهتماماته، ويعلي سقف أهدافه. والشعور بالانتماء لأمة هو أقوى وأعلى وأسمى من الشعور بالانتماء لشعب أو عرق أو بلد، ولا يتنافى معه في الوقت ذاته، وربما هذا ما يدفع الشعوب والدول قديما وحديثا للتكتل وتشكيل الأحلاف والإمبراطوريات والاتحادات، فالأمة غير الدولة وغير الشعب، هي أكبر من ذلك وأوسع.وهذا الشعور الخاص -وإن كان شعورا إنسانيا- يفترض أن يكون في المسلم أقوى حضورا وأظهر أثرا؛ ذلك أنه زيادة على الفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية التي تدفع الناس المختلفين عرقا ودينا وإقليما وموطنا إلى الذوبان في أمة، قديما على شكل إمبراطوريات، وحديثا على شكل أحلاف (الناتو، الأوراسيا..) واتحادات (الاتحاد الأوربي..)، نجد المسلم له دافع ثان وحافز قوي للشعور بالانتماء إلى أمته، هذا الدافع هو العنصر الديني، الذي لا يخفى على أحد مدى قوته وشدة تأثيره على الإنسان، وهو العامل الوحيد لنشوء الأمة المسلمة، كما يظهر جليا من اسمها ووصفها ونسبتها. الأمة المسلمة التي تستوعب مختلف الأعراق والقوميات والشعوب والدول في مساواة صادقة وعدل تام وأخوة حقة، تتعالى على التقسيمات الإدارية والحدود السياسية بحيث تجعلها مجرد تنظيمات تضبط حركة الأبدان ولا تحاصر النفوس والأرواح والمشاعر والآمال.إن الأمة المسلمة تأسست بنزول القرآن الحكيم، وهي الأمة الوحيدة التي عرفها تاريخ البشرية التي كان منشؤها كتابا بكل ما يحمله ذلك من دلائل قوية وإشارات بعيدة وأبعاد عميقة، هذا القرآن العظيم الذي قرر من أول يوم وفي أكثر من موضع أن الأمة المسلمة هي أمة مميزة بين الأمم ورباطها المتين هو الدين المبين: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم}، {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، هذا حكم القرآن الكريم، وهو يقتضي أنه مهما تفرقت الأمة الإسلامية وتمزقت إلى دول ودويلة فإن الشعور بالانتماء لأمة الإسلام لا بد أن يبقى حيا في قلب كل مسلم صادق الإسلام.إن الأصل هو أن التوحيد هو توحيد للمسلمين شعوريا وواقعيا، فالإسلام يجمع الناس على كلمة سواء، ولا أعجب ولا أغرب ممن يدعي نصرة التوحيد اهتماما وتعليما، وهو لا يرى التوحيد يتقرر ويتحرر إلا بالفراغ من تصنيف المسلمين في فرق مِزعًا!، رغم أن في هذا مضادة ظاهرة لقصد الشارع الحكيم سبحانه وجهل فظيع بدينه، وإلا كيف يفهم التوحيد من لا يستطيع أن يتصور المسلمين إلا فرقا متباينة متخاصمة ترمي كل واحدة منها البقية في النار؟!، وكيف يفهم التوحيد من يرى أنه لا يصفو له توحيده إلا ببراءته من كل المسلمين الذين يخالفونه في قضايا من القضايا العلمية أو العملية؟!.إن الإسلام اهتم من أول يوم على غرز فكرة الأمة في نفس كل مسلم وتعزيزها، وأكد من أول يوم على ضرورة تماسك هذه الأمة شعوريا وواقعيا: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}، «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه. «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا». وشبّك أصابعه. رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. لا جرم أن وجدنا القرآن الكريم يهتم بتقرير وحدة الأمة المسلمة قبل الأمر بالعبادة والتقوى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}، وفي هذا إشارة واضحة، بل نص صريح على أن من مقاصد العبادات تعزيز روح الشعور بالانتماء إلى أمة الإسلام، الصلاة التي توحد المسلمين بجمعهم على قبلة واحدة، والصيام الذي يوحد المسلمين في شهر واحد على عبادة واحدة فريدة مميزة، والحج الذي يوحد المسلمين في بقاع مقدسة في زمن محدد على عبادة واحدة: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين}، {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم}. فمن ثمرات مواسم الطاعات الجليلة العظيمة تعزيز شعور المسلم بانتمائه لأمة الإسلام، وهي ثمرة غالية يغفل عنها كثير من الناس على أهميتها وضروريتها في كل زمان وفي زمان التشرذم والتفرق هذا. توجب على كل مسلم أن يفتش نفسه عن مدى شعوره بانتمائه للأمة المسلمة، وعن مدى افتخاره بذلك، وعن مدى فقهه لمقاصد العبادات وغاياتها.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات