38serv
يعتقد الكاتب الروائي سعيد خطيبي أن الفجوة حصلت في الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، وبات من الواجب أن تحصل قطيعة مبنية على تدارك ﺃأخطاء الجيلين الأول والثاني من الروائيين لتأسيس رؤية جديدة. وقال خطيبي، في حوار مع “الخبر”، بمناسبة صدور روايته الأولى “كتاب الخطايا”، إن هذه الفجوة قد تساهم جزئيا في انتشال الرواية الجزائرية من خندق الكتابة الديداكتيكية والديالكتية الجوفاء.تحاول روايتك أن تقول بأن المجتمعات العربية تريد بلوغ أنماط حياة حداثية، لكنها عجزت عن تحقيق حرية الفرد، إلا أنك في الوقت نفسه لجأت إلى أسلوب كتابة يعيد الاعتبار للحكاية، هل هذا يعني أن بُعد المجتمع عن السؤال الأساسي (حرية الفرد) هو نفسه بُعد الكاتب عن ماهية الرواية (الحكاية)؟ لا يختلف اثنان في حقيقة ﺃأن المجتمعات العربية تقمع الفرد كفرد، ولا تعترف به سوى ضمن الجماعة. المصادقة على قانون يعتبر الأسرة مجملة نواة للمجتمع، يعتبر خطأﺃ فادحا وتزييفا مقصودا ﺃأيضا، يهدف المروّجون له ضمنيا لقمع الحريات الفردية. في الرواية، انطلقت من أﺃن الفرد بكل تناقضاته هو المحرك الأساسي للعالم المحيط به، وليس بحاجة للخضوع للقوانين الوضعية والميتافيزيقية والعقود الاجتماعية المفروضة عليه سلفا لتحقيق وجوده واستقراره. ليس وفق منظور عدمي ﺃولا سلطوي، ولكن من مرتكز ﺃأن حرية الاختلاف هي قاعدة كل مشروع توافقي ﺃأصيل. كتب مرة الأخوان غونكور في “ﺃأفكار ومشاعر” ما معناه أﺃن “الرواية هي ﺃأن تحكي تاريخا كان يمكن ﺃأن يحصل”، الرواية بالأساس سرد وبنية متناسقة لعناصر مضلع السرد، وقدرة على التحكم في مفاصل القصة، ولكن ليس كل من يمتلك قصة يمكن ﺃأن يحكي، للحكي طقوس، يستوجب وعيا، ويتطلب جرعة زائدة من الحرية، تحررا من خوف دفين. أﺃن نحكي مثلا فشلنا ليس عيبا ﺃو ﺃأن نحكي ولعنا بالمحرم ونفورنا من المقدس، فهو جزء من مساهمة الكاتب في تخليص المجتمع من تراكمات عقد دونية وخشية مترسخة من نقد الذات.وكأنك تدعو إلى القطيعة مع الموروث الروائي السابق؟ مفهوم القطيعة يتضمن معنى الاستمرارية، على خلاف الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، التي اختصرت المسافات. نلاحظ ﺃأن الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية قد ضيّعت عقدين من الزمن، بحثا فقط عن وعاء وهوية ثابتة لها. شكّلت ﺃدلجة النص الأدبي واحدا من عوائق تطور الرواية العربية في الجزائر، أضف ﺇإلى ذلك استسهال فعل الكتابة وتواطؤ الناقد مع الكاتب. مثلا لن نجد نظيرا لثلاثية محمد ديب عند الكتاب المعربين، ولا نظيرا للروايات الاثنوغرافيا المؤسسة التي كتبها ايتيان ديني وسليمان بن براهيم، والشيء نفسه مع رواية مرجعية مثل “المغارة المتفجرة” للكاتبة يمينة مشاكرة. كان يتوجب على الجيل الطلائعي في الرواية الجزائرية بالعربية، ﺃأن يستفيد من تجربة من سبقه في الكتابة بالفرنسية، لا ﺃأن يعلن عليه حربا عرجاء غير مجدية. حصلت هنا الفجوة في الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، وبات من الواجب أن تحصل قطيعة مبنية على تدارك ﺃأخطاء الجيلين الأول والثاني من الروائيين، لتأسيس رؤية جديدة، أﺃقل ميلا للتطرف وركوب موجات الآني، قد تساهم جزئيا في انتشال الرواية الجزائرية من خندق الكتابة الديداكتيكية والديالكتية الجوفاء، كما لو أﺃنها تلقن القارئ دروسا، مستبعدة ﺇإياه من العملية الإبداعية، بشكل يحرمه من دوره المحدد في لعبة السرد. البعض وصفك بابن كاتب ياسين المدلل، يظهر أنك جد متأثر به، بالأخص من حيث الارتباط بالجذور الأمازيغية، هل يُعدّ صاحب “نجمة” بمثابة مرجع للكتابة الروائية بالنسبة إليك؟ يعتبر كاتب ياسين كاتبا مرجعيا لجيل كامل من الكتاب الجزائريين، والمغاربة ﺇإجمالا. حظيت بشرف الاطلاع على مجمل ﺃأعماله: الشعرية والروائية والمسرحية والصحفية، قبل ﺃأن أﺃقرأﺃ سيرته وفق مصادر مختلفة. ياسين هو الطفرة التي كان يجب ﺃأن تحصل، هو الاستثناء الذي ﺃأحدث الحلحلة الأهم، وكسر نمطية الرواية المغاربية، هو باختصار روح العصيان التي حرّرت النّص من ضيق ﺃفق الكلاسيكية. رشيد بوجدرة أﺃيضا يعتبر مجددا وصاحب فضل على الرواية الجزائرية في مرحلة لاحقة، لكنه لم يتجاوز ياسين بعد. العودة إﺇلى كاتب ياسين تشبه العودة إﺇلى الأصول بعد سنوات من الاغتراب، كعودة صبي ﺇإلى حضن ﺃأمه، أﺃو شيخ ﺇإلى صباه، فهو النبع الصافي الذي نستخلص منه تجارب ﺃأدبية راهنة وأخرى مستقبلية.يلاحظ القارئ غياب الاستنكار السياسي في رواية “كتاب الخطايا”، رغم أنها رواية سياسية بامتياز.. هل يمكن إرجاع ذلك الغياب إلى ارتباط الرواية الجزائرية الجديدة بالسياسة؟ السياسة في جوهرها فعل ثقافي، السياسي الجيّد لا بد أن يكون مثقفا جيّدا. والرواية ليست بحاجة ﺇإلى استنكار ﺃأو مدح سياسة ما والتأثير على رأﺃي وتوجه القارئ، هذا الأخير له خيارات وقناعات، وﺃأحيانا كثيرة هو أنكىﺃﻨ من الكاتب نفسه، وليس بحاجة إلى سلطة معنوية من الآخر للتفريق بين السلبي والإيجابي، وبقدر ما تبتعد الرواية عن إطلاق الأحكام واتخاذ المواقف الصلبة الجاهزة، فهي تضمن لنفسها علاقة أكثر حميمية مع القارئ. في الرواية الجزائرية الجديدة، خصوصا مع عشرية التسعينيات، برز توجه نحو تضمين الروايات خطابا سياسيا فجا، سطحيا، يقترب من شكل كتابات “المانيفستو” الحزبي، وراح بعض الكتاب ينصبون أنفسهم دعاة للعدالة ويحاكمون ساسة ومعارضين وملتحين باسم الأخلاق المثالية، متناسين وظيفة الكاتب الأساسية وضرورة تحليه بالمسؤولية الأخلاقية لحظة الكتابة. كتاب ﺁآخرون استطاعوا ﺃأن يفرقوا بين كتابة الرواية الخالصة وكتابة “المانيفستو” سنوات الإرهاب مثل رشيد ميموني، لكن بعض روايات ما ﺃأطلق عليه خطأﺃ الكتابة الاستعجالية، ورّطت نفسها في خط يبتعد عن الأدب ويقترب من الكتابة التقريرية.تنتهي الرواية بميلاد طفل ومأساة امرأة (كهينة)، لكنها تخبرنا أن ثقل التاريخ يشكّل في بعض المرات خطرا على بناء الذات، ما هي مشكلة (كهينة) مع التاريخ، ولماذا هي عدائية تجاهه؟ هي بالأساس أﺃزمة هوية وضبابية الانتماء التي وضعتها في حالة من المساءلات وﺃأدخلتها دوامة من الفراغ واللاجدوى. وهي حالة الملايين من الجزائريين: هل ننتمي للحاضر بتعدده ﺃأم نظل متعصبين للأصول؟ بطلة الرواية ليست امرأة صاحبة تعليم عالٍ وليست مثقفة بالمفهوم المتعارف عليه للمصطلح. هي طورت نفسها بنفسها، وتحاول تنمية مكتسباتها بالاحتكاك مع من هم ﺃكثر خبرة وحنكة منها. هي أﺃمازيغية، وتعيش تمزقا هوياتيا، مشتتة بين الروايات التاريخية الرسمية والأساطير التي تؤثث وعيها الشاب، والتي سمعتها من أناس حولها. في النهاية، ستترك باب الأسئلة مشرعا، وستنجب طفلا غير شرعي، ولكنه، في نظرها، شرعي رغم أﺃنف المجتمع والتقاليد، من منطق كونه ثمرة علاقة حب، حب ﺃأحادي الجانب، مع رجل انتهازي. اختارت لنفسها، في نهاية المطاف، التموقع في الضفة الأكثر توحشا، الأكثر ظلمة، وتحملت وزر خطاياها وخطايا الآخرين، ولم تتوقف عن انتقاد التناقضات التي صنعت وتصنع وعي المحيط الذي تنتمي إﺇليه.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات