38serv
أخرج الإمام ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته؛ علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته”.في هذا الحديث يبين المعصوم عليه الصلاة والسلام أن من أهم الصدقات الجارية علما علمه ونشره، فالعلم يبقى أثره، وتجري حسناته على صاحبه في حياته وبعد مماته، سواء كان علما دنيويا أو أخرويا، فيدخل فيه علم الطب والهندسة والصناعات ونحو ذلك، وإن كان أفضلها العلوم الشرعية، مما يتعلق بالكتاب والسنة من علوم التفسير والحديث والفقه والأخلاق والمعاملات، فتعليم الخلق من أعظم العبادات المتعدية النفع إن لم تكن أعظمها على الإطلاق.وقوله: “وولدا صالحا تركه”، كلمة الولد تشمل الذكر والأنثى، فيدخل في ذلك الابن والبنت إن كانا صالحين، فكل من أحسن تربية أولاده ورعايتهم يكتب الله له أجر كل الأعمال الصالحة التي يقوم بها أبناؤه، وكل مكرمة يعلمها الأهل لأبنائهم تزيد من مقامهم ودرجتهم يوم القيامة حتى يبلغ المرء بذلك أعلى الدرجات، وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا”. وقوله: “ومصحفا ورَّثه”، يدخل في ذلك شراء المصاحف وتوزيعها وإهداؤها للمساجد أو للمكتبات، أما قوله: “أو مسجدا بناه”، فبناء المساجد وعمارتها وإقامة شعائر الله فيها من الحسنات والصدقات الجارية للمسلم في حياته وبعد مماته: “من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها، بنى الله له بيتا في الجنة”، ويدخل في ذلك من ساهم في شرائه أو بنائه، أو عمل فيه بيده، ونحو ذلك.ثم ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام صورا أخرى للصدقات الجارية بقوله: “أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته”، فكل ذلك مما ينتفع به المؤمن، اذا احتسب عند الله أجره، وابتغى به وجهه الكريم.ومن صور الحسنات الجارية إصلاح الطرق، وإزالة الأذى عنها، ومنها بناء المدارس لتعليم الناس شتى العلوم، ومنها المساهمة في بناء المستشفيات لعلاج المرضى، فكم من مريض أرهقه البحث عن العلاج أو عن دواء فلم يجده، فالمساهمة في تخفيف الألم ورفع المعاناة من أفضل أبواب الصدقات الجارية، ومنها وقف الأموال والعقارات على المحتاجين إليها، ففي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحَاء، فلما نزل قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإن أحب أموالي إلي بَيْرُحَاء، وإنها صدقة لله، أرجو بِرها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.ومن الحسنات الجارية: منيحة الغنم أو البقر أو الإبل للفقراء ليستفيدوا من وبرها ولبنها: “أربعون خصلة؛ أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة”، ومن الصدقات والحسنات الجارية حفر الآبار في المناطق التي يحتاجها الناس كالبوادي والقرى، أو وضع برادات بالمساجد ليشرب منها المصلون، أو توفير لوازم المساجد من المكيفات ومكبرات الصوت والساعات وغيرها.ومن كنوز الصدقات والحسنات الجارية: حفر القبور للموتى ودفنهم: “من غسل مسلما فكتم عليه، غفر الله له أربعين مرة، ومن حفر له فأَجَنَّهُ (دفنه) أجري عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفنه كساه الله يوم القيامة سندس وإستبرق الجنة”.فالحسنة الجارية قد تكون عملا يسيرا، ومع ذلك فهي تجارة رابحة تنوِّر قبر صاحبها، ويجدها معروضة في عرصات يوم القيامة تثقل ميزانه. والله ولي التوفيق.إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات