+ -

بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا، عام 2002، سوّق للعالم ما أطلق عليه نموذج الإسلام المعتدل، الذي نال إعجاب الغرب، وحتى دول عربية وإسلامية، ورأت فيه البديل الأمثل لأنظمة الحكم في الشرق الأوسط، حيث حقق حزب العدالة والتنمية، في بداية مشواره، نجاحا سياسيا واقتصاديا، كسب من خلاله دعما من جانب قوى أخرى فاعلة في الداخل التركي، ضمت شريحة مهمة من المجتمع المدني ظنا منهم أنه في طريق تحقيق الديمقراطية، خاصة بعد نجاحه في تحييد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية. لكن حقيقة قصة النموذج التركي ”الإسلام المعتدل” لم تدم طويلا، حيث بدأت مؤشرات تآكل هذا النموذج، تزامنا مع تراجع حزب العدالة والتنمية عن قيمه الرئيسية، كالديمقراطية، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية، والحريات الفردية.الدول الغربية والعالم الإسلامي، اقتنعوا بفكرة ”الاعتدال الإسلامي” أو النموذج التركي فبدأوا الترويج له على أنه البديل للإسلام ”المتطرف”، حسبهم، في منطقة الشرق الأوسط، لكن كما أعلم ويعلم الكثيرين أن الأزمات وحدها فقط من يملك القدرة على اختبار مصداقية أي نظام وكشف عيوبه ومزاياه.وحزب العدالة والتنمية في تركيا، على رأسه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، تعدى صراعه مع المؤسسة العسكرية الذي تخلص منه على نار هادئة بتفويض من الشعب التركي، ومؤسسات المجتمع المدني الفاعل على الساحة، كما أنه لما أراد تغيير قانون القضاء لوقف تدخل المؤسسة العسكرية وجماعة ”الأرجناكون” في الشؤون السياسية للدولة لجأ إلى الاستفتاء الشعبي، غير هذا، لم تشهد تركيا طيلة حكم حزب العدالة والتنمية أزمات قوية، التي من شأنها أن تكشف لنا مدى صدق هذا النموذج ومصداقيته وكذا صلابته وقوته، كما تمكننا أيضا من معرفة ردة فعل القائمين على رأس هذا الحزب والطريقة التي يتعاملون بها مع الأزمة.بدأت أزمة الفساد الكبرى في تركيا بتاريخ 17 ديسمبر 2013، حيث أثبتت التحقيقات الأولى تورط العديد من رجال الأعمال المقربين من حزب العدالة والتنمية وبعض الوزراء التابعين لحكومة الحزب ذاته، هنا الأزمة الكبرى التي لم يسبق لأردوغان أن شهدها في مشواره السياسي، بدأت بالفعل، فمنطق إدارة الأزمة يقول إن الخطوة الضرورية التي كان على أردوغان اتخاذها هي إقالة الوزراء الضالعين في الفساد، وأن يسمح لتحقيقات النيابة العامة أن تأخذ مجراها للكشف عن حقيقة الفساد من عدمه، وهو مطلب الشعب التركي، لكن ما شهدناه عكس ذلك تماما، فقد كان تعامل أردوغان وحكومته مع هذه الفضيحة بانفعال حاد مصحوب بإجراءات قمعية وتشديد قبضة السلطة التنفيذية على القضاء وغيره من مؤسسات الدولة، وغلق ما بقي من منافذ حرة يتنفس عبرها الناس بعد إحكام الهيمنة على الإعلام المرئي والمطبوع.أما بالنسبة لانفلات أعصاب أردوغان حيال ذلك فلم يكن أمرا مستبعدا، فهو لا يملك بحكم خلفيته طريقة أخرى في إدارة الأزمات حين تتفاقم وتمثل خطراً على حكمه. ولا يختلف من يعتبرهم البعض إسلاميين معتدلين عمن يوصفون بأنهم متطرفون أو متشددون عندما يتعلق الأمر بكيفية التعامل مع الآخر، خاصة في وقت الأزمات الكبرى. لذلك لم يستطع أردوغان، وقد دخلت الأزمة في مرحلة متقدمة، الاحتفاظ بحالة الهدوء التي حرص عليها لسنوات طويلة ومواصلة أسلوب الهيمنة التدريجية على مؤسسات الدولة ومفاصلها بشكل بطيء ولكنه مطرد. كما لم يكن بإمكانه، بحكم منهجه الذي لا يعرف غيره، أن يعترف بالحقيقة ويتحمل المسؤولية بشجاعة فيعتذر ويستقيل ويتعهد من يخلفه بإنهاء الفساد واحترام أحكام القضاء.فقد اندفع أردوغان بسرعة غير مسبوقة باتجاه إكمال الهيمنة على مؤسسات الدولة ومصادرة ما بقي من منافذ قليلة لحرية التعبير. وفي الوقت الذي استخدم سلطة حكومته لإبعاد عدد كبير من رجال الشرطة وموظفين كبار في عدد من المؤسسات والهيئات العامة، خاصة هيئة التنظيم والإشراف على المصارف، وهيئة الاتصالات العامة (تي.آي.بي)، تحرك نحو إخضاع السلطة القضائية بشكل كامل والسيطرة على الفضاء الإلكتروني.ولم يكتف أردوغان بإبعاد مدعين عامين ونوابهم ووكلاء نيابة عن التحقيق في فضيحة الفساد الكبرى، وإسنادها إلى آخرين شرعوا على الفور في طمس أدلة وإخفاء وثائق مهمة، بل قدّم أتباعه في البرلمان مشروع قانون ينهي استقلال القضاء ويُخضعه لهيمنة السلطة التنفيذية بشكل كامل. فيسمح هذا المشروع لوزير العدل، وبالتالي لرئيس الحكومة، بتعيين القضاة وتوزيعهم على المؤسسات والهيئات القضائية بما فيها المحكمة العليا.يمكن القول إن نموذج ”الإسلام المعتدل” بدأ يفقد بريقه في الداخل التركي، وخارجها، فعلى المستوى الداخلي، داخل الحزب نفسه بدأت الانشقاقات، بسبب انحراف الحزب عن مبادئه الأساسية، وكان آخر هذه الانشقاقات، إعلان رئيس المجلس المحلي في بلدية جيلان بينار ”عبد الغني ألكيش” عن استقالته من الحزب برفقة 30 شخصًا من أعضاء الحزب في البلدية والمجلس المحلي، اعتراضًا على الأسماء المرشحة لخوض الانتخابات البلدية المقبلة.وأشار ألكيش، في عدة تصريحات، إلى أنهم قدموا إلى هنا لخدمة البلدة ولشرح مبادئ وأهداف حزب العدالة والتنمية، كما أنهم بذلوا قصارى جهدهم من أجل عدم الوقوع في الأخطاء، إلا أن قادة الحزب لم يتركوا لهم مجالاً للعمل في السياسة، وقرروا بطريقة غير عادلة اختيار مرشحين آخرين، موضحًا بأن هذا الأمر أفقدهم الأمل في الحزب واضطرهم إلى تقديم استقالة جماعية من حزب العدالة والتنمية، وقد سبقت هذه الاستقالات استقالات أخرى، هذا على المستوى الحزبي.أما على المستوى الشعبي، كشفت دراسة أجرتها مؤسسة ”متروبول” للأبحاث الإستراتيجية والاجتماعية، في تركيا، النقاب عن أن 24% فقط من الشعب التركي يؤمن بنظرية الانقلاب والمؤامرة التي يروج لها رئيس الوزراء، طيب أردوغان، للتغطية على فضيحة الفساد والرشوة الأخيرة في المقابل أظهرت الدراسة أن 70% من المجتمع يؤمنون بصحة الادّعاءات التي تتولى النيابة التحقيق فيها في إطار قضية الفساد. أما على المستوى الخارجي أخذت فكرة النموذج التركي في تراجع رهيب بعد قضايا الفساد التي طهرت في 17 من ديسمبر الماضي، حيث أبدى الاتحاد الأوروبي قلقه بشأن الأزمة في تركيا، المتعلقة بقضايا الفساد التي طالت شخصيات موالية لأردوغان. كما ناشد الاتحادُ تركيا أن تعالج الأمر بشفافية وحياد، كذلك دعا وزير خارجية السويد الحكومة التركية إلى الرجوع إلى الإصلاحات والديمقراطية المستوحاة من الاتحاد الأوروبي .وعليه يمكن القول إن كل هذه الدلائل هي بداية لنهاية أمر ”النموذج التركي” للحكم الراشد، المراد تطبيقه في الشرق الأوسط، كانت بدايته عام 2002 بوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا، وربما ستنتهي قصة هذا النموذج بخروج حزب العدالة والتنمية من دائرة حكم تركيا في الانتخابات البلدية والرئاسية المقبلة، في ظل التطورات السياسية التي تشهدها تركيا، بفعل تراجع الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الفردية فيها، وتوجه العدالة والتنمية إلى إعادة تركيا إلى سياسة حكم الحزب الواحد، وهو أمر مرفوض تمام الرفض لدى الشعب التركي.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات