38serv

+ -

لعبت السياسات الأمريكية والحروب التي قادتها بشكل مباشر أو عبر الوكالة، في مختلف أصقاع الأرض وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، دورا كبيرا في إعطاء صورة سلبية عن الولايات المتحدة وعن الشعب الأمريكي، وقدّمتهم على أنهم شعب لا يختلف في الصفات وفي الأفعال عن المسؤولين الأمريكيين، لكن الحقيقة أن الشعب الأمريكي مختلف كثيرا وأصحاب القرار الأمريكي لا يعكسون حقيقة الشعب الأمريكي الذي تابعه العالم وهو يخرج بعشرات الآلاف في شوارع كبريات المدن الأمريكية للتنديد بالموقف الأمريكي وبالحرب الصهيونية على غزة.

أتيحت لي الفرصة، في شهر جويلية من العام الماضي، لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية في إطار برنامج "الزائر الدولي"، إلى جانب زملاء من الجزائر ومن تونس والمغرب، وقفت خلالها على الكثير من الحقائق غيّرت من وجهة نظري بخصوص الشعب الأمريكي.

فخلال شهر من الإقامة في الولايات المتحدة، زرت عدة مدن وولايات، على غرار واشنطن وبولدر بكولورادو وديترويت وكلامازو وتامبا بفلوريدا.

فإلى جانب اللقاءات التي كانت لنا مع مسؤولين سامين في الخارجية الأمريكية ومسيرّين لمؤسسات إعلامية وصحفيين وناشطين في المجال الاجتماعي، كانت لي الفرصة للاحتكاك بالمجتمع الأمريكي وتبادل أطراف الحديث مع مختلف الشرائح من شباب وكهول وشيوخ ونساء، الشيء الذي يجذبك، هو سهولة التواصل معهم وتواضعهم وحرصهم على المساعدة ومدّ يد العون حين تسألهم عن مسألة أو عنوان مكان ما.

وفي كل مرة بادرت بالسؤال إلا وكان الترحيب، وفي بعض الحالات تجدهم يبادرون بالمساعدة، وأول شيء يسألك عنه الأمريكي وهو يتبادل معك أطراف الحديث، من أي ولاية أنت قادم؟ فاحتمال أنك أجنبي عن بلاده يأتي في المرتبة الثانية، على اعتبار أن الولايات المتحدة هي بلاد هجرة، وفي العموم لن تجده يتبجّح بأنه صاحب الأرض كما هو الحال عليه في دول أوروبية.

لا يعني هذا أن في الولايات المتحدة لا توجد عنصرية ضد الآخر، فإلى الآن يواجه السود تحديات في المجتمع الأمريكي، بسبب سلوكات المتطرفين البيض، وللمجتمع الأمريكي مشاكله وحساسياته الداخلية، لكن في الغالب ستجد الأمريكي إنسان متفتح يحب الحديث والنقاش مع الآخر وتبادل الأفكار، وحتى كنت غريبا عنه، لا يجد حرجا في أن يحكي لك تفاصيل عن حياته وعن عائلته، وقد عشت هذه التجربة أكثر من مرة، كانت آخرها مع شيخ التقيته بموقف حافلات بمدينة تامبا بولاية فلوريدا.

الرأي العام السائد عندنا يحكم على المجتمع الأمريكي من خلال مواقف الحكومة الأمريكية وسياسياته الرعناء بمنطقة الشرق الأوسط، ومن خلال أفلام "الويسترن"، لكن في الولايات المتحدة يوجد أيضا شعب مسالم ويحب الحياة ويحب الآخر ويتعاطف مع المظلومين، ويقف إلى جانب الشعب الفلسطيني ويناهض السياسات الصهيونية، وهنا كان لدور النخب العربية والإسلامية دورا مهما في إيصال صوت الفلسطينيين لعامة المجتمع الأمريكي.

ما شاهدناه من مسيرات ووقفات تضامنية مع الشعب الفلسطيني وضد المجازر الصهيونية في قطاع غزة وضد مواقف واشنطن المساندة للاحتلال الصهيوني في أكثر من مدينة أمريكية، حيث كان الحضور قويا على غرار نيويورك وميشغان ونيويورك وفي العاصمة واشنطن، حيث تم اقتحام الكونغرس للتعبير عن الرفض والإنحياز المفضوح للإدارة الأمريكية والذي يعكس طينة قطاع واسع من الأمريكيين.

هذا الوعي المتنامي في أوساط الشعب الأمريكي بعدالة القضية الفلسطينية، وبوجوب وضع حد لهذا الدعم الأعمى للكيان الصهيوني، من شأنه أن يغيّر الكثير من المعطيات على الأرض على المديين المنظور والبعيد، ويظهر فشل وسائل الإعلام في إبقاء سيطرتها على توجهات الرأي العام الأمريكي الذي وجد في مواقع التواصل بديلا عن ما تبثّه وسائل الدعاية "الصهيونية".

وكانت قد كشفت نتائج استطلاع في الولايات المتحدة، أن 52 بالمئة من الأمريكيين، يعارضون إرسال حكومة بلادهم السلاح إلى إسرائيل. ووفقا للاستطلاع الذي أجرته شبكة "سي بي إس" الإخبارية، بين 16 و19 أكتوبر الجاري، فإن 57 بالمئة من المشاركين يدعمون إرسال مساعدات إلى غزة.

كما أعرب 56 بالمئة من الأمريكيين عن عدم رضاهم إزاء سياسة الرئيس جو بايدن بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وعبّر 85 بالمائة من المشاركين عن قلقهم إزاء خطر اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، في حين أعرب 79 بالمائة عن قلقهم بخصوص احتمال إجراء الولايات المتحدة أنشطة إرهابية. وعارض 52 بالمئة من الأمريكيين إرسال واشنطن أسلحة ومعدات إلى إسرائيل، بينما قال 24 بالمائة، إن بإيدن يقدّم أسلحة كثيرة إلى إسرائيل.

المؤكد أن شريحة غير قليلة من الأمريكيين، إما لا يعرفون بوجود شيء اسمه القضية الفلسطينية، أو سمعوا فقط رواية واحدة تقدّمها وسائل الإعلام الأمريكية التي تضع دعم الاحتلال الإسرائيلي على رأس الأولويات وانتقادها أو انتقاد واقع الاحتلال خط أحمر، وهنا يظهر دور النخب العربية والإسلامية بالولايات المتحدة، التي تقوم بعمل كبير في هذا المجال، بالرغم من أنها تبقى جالية ضعيفة عدديا مقارنة بالجاليات الأخرى، وإن كانت نوعية أيضا، ولم تستطع بعد أن تفرض نفسها ووجودها في المشهد الأمريكي. ومن المهم الإشارة إلى أن المجتمع الأمريكي، هو فضاء مفتوح للجميع، بحكم أنه مجتمع تشاركي ومبني على المبادرات المجتمعية، وللمجتمع المدني دور كبير ومحوري في الحياة الأمريكية، ويعتبر استغلال هذا الفضاء الحيوي لإنجاح أي مبادرة أو استراتيجية تعمل على التعريف بالقضية الفلسطينية وبعدالتها.