38serv
منذ هجوم السابع أكتوبر الماضي، أعلنت إسرائيل وحلفائها في واشنطن، أن الهدف الأساس للحرب على غزة، يتعلق بتفكيك حماس والمقاومة وإنهاء حكمها لقطاع غزة، لكنه ليس واضحا لهذه الأطراف في الوقت الحالي كيفية تحقيق ذلك، خاصة وأن هذا الهدف بات ضمن حزمة الأهداف التي أسقطتها التطورات الميدانية بعد 50 يوما من الحرب، والتي كشفت أن كل التقديرات الصهيونية والغربية بشأن حماس والمقاومة وواقع غزة، ملتبسة وغير واقعية وليست دقيقة، خاصة وأن تحولات الموقف الإقليمي ليست في صالح هذه التقديرات.
المشهد الاستعراضي الذي أقامته المقاومة الليلة قبل الماضية (ليلة الاثنين)، خلال تسليمها الدفعة الثالثة من المحتجزين لديها في وسط غزة، وبحضور كثيف لعناصر القسام عدّة وعتادا، كان رسالة واضحة إلى الطرف الإسرائيلي وكل حلفائه الغربيين والإقليميين، بأن حماس والمقاومة ما زالت بنفس قوتها وحضورها الميداني، وبنفس مستوى التأييد الشعبي الذي برز خلال هذا الاستعراض من جهة، ومن خلال التأييد الكبير الذي تحوزه المقاومة في غزة وفي الضفة خلال تحريرها الأسرى من سجون الاحتلال.
وإذا كانت هذه الرسالة ذات بعد عسكري في سياق الحرب موجهة إلى إسرائيل وقادة الحرب وإلى المجتمع السياسي في الكيان، فإنها ذات بعد سياسي في الوقت نفسه، موجهة إلى الأطراف الإقليمية في الفضاء العربي، خاصة تلك المطبّعة مع الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس ومجموعة التنسيق الأمني، وهي كلها أطراف كانت أكثر تلهّفا للقضاء على المقاومة وإنهاء وجودها في غزة بعدما أخلطت عليها المقاومة مشروع التطبيع وبعثرت أوراقه، وهي رسالة أيضا إلى كل الأطراف الدولية التي تناقش وضع غزة ما بعد الحرب، بأنه ليس هناك أية إمكانية وتحت أي ظرف كان، الحديث عن وضع غزة دون أن تكون فصائل المقاومة الطرف الرئيس في رسم وهندسة مستقبل الصراع وجغرافيته السياسية في غزة وفلسطين.
على مستوى آخر، يتضح أن غرق الكيان في حسابات الحرب عند بدايتها، ساهم في خلق حالة من العمى السياسي لدى قادته، إذ سريعا ما كشفت أطوار المواجهة وتكشّفت لهم عن واقع عصيب، أسقط كل الأهداف السياسية التي رسمها قادة الكيان للحرب، مما دفعهم إلى "النزول من الشجرة" لبحث صفقة التبادل بعد فترة رفض وتمنّع عن ذلك، وهي مرحلة استدرجت إليها المقاومة الكيان وحلفائه، ستمهّد في سياق تطويرها إلى صفقة نهائية، إلى قبول إسرائيل بواقع قطاع غزة كما هو والتخلي عن خطط تغيير إدارتها مقابل ضمانات أمنية قد تكون أطراف عربية وغير عربية حكما فيها.
من الواضح أن مستوى التدبير الاستراتيجي لقيادة حماس، كان وضع تصورا مبكرا واستباقيا لهذا الوضع، وهذا ما دفع حماس إلى أن تضع نفسها منذ تشكّل مشروع المقاومة في غزة ضمن الجسم الكبير لهذه المقاومة المتعددة الفصائل، ونجحت في ظروف ما بعد المواجهات السابقة في تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة ميدانيا، وتنسيق آخر على المستوى السياسي نجح في تطوير علاقات استراتيجية مع محور دول منحازة لصالح خيار المقاومة، وهو ما يجعل جسم المقاومة أكبر بكثير من ثقب الإبرة التي تحاول إسرائيل وحلفائها إخراج المقاومة عبره.
وإذا كان ثقب الإبرة الإسرائيلية والغربية هذا أصغر بكثير من جسم المقاومة، فإنه ازداد في الصغر بحيث لم يعد قابلا لسحب الفكرة نفسها حتى بعد المآلات التي انتهت إليها المواجهة حتى الآن، حيث عززت المقاومة وحماس باعتبارها كبرى الفصائل مشروعيتها، من خلال تكريس حق المقاومة وإسقاط كل الدعاية الصهيونية وكشف أكاذيبها التي انهارت بشكل متلاحق، وتحقيق مكاسب شعبية كبيرة لصالح القضية الفلسطينية، باعتراف المجتمعات الغربية نفسها وتظاهرها بشكل غير مسبوق لصالح دعم حق الفلسطينيين في المقاومة وتحرير أرضهم وتحوّل مواقف الحكومات والمجتمع السياسي الغربي خاصة نحو الحق في إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ساعد على نقل الحصار السياسي إلى إسرائيل التي باتت منقسمة على نفسها وعاجزة عن الدفاع عن أية من أطروحاتها.
بخلاف هذا الفشل الذريع للمشروع الصهيوني الذي كان يرتبط بمشاريع أخرى تخص تهجير الفلسطينيين من غزة وإفراغها تمهيدا لإقامة مشروع قناة بن غوريون التي تعبر غزة، مما يهدّد قناة السويس بالبطالة، فإن المقاومة هي التي وضعت الجسم الإسرائيلي، السياسي والاقتصادي والمجتمعي داخل عنق زجاجة، لا تجد إسرائيل للخروج من عنقها سبيلا غير القبول بالتفاوض والتخلي عن حالة الاستكبار التي كانت تحكم سياساتها.