38serv
الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، المشهور بالسيوطي، من أعيان القرن العاشر الهجري، توفي سنة 911هـ، ترك آثارا كثيرة جدا، ومؤلفات ماتعة في شتى الفنون، ومن تلكم الآثار كتاب سماه: “مطلع البدرين فيمن أوتي أجره مرتين”، خص هذا السفر بمن أكرمهم الباري عز وجل فآتاهم أجورهم مضاعفة.
من إكرام الله سبحانه لأمة الحبيب أن خصها وتفضل عليها بنعم جليلة عظيمة، تمثلت في مضاعفة الأجور والحسنات، وحدّدت الشريعة الغرّاء أصنافا يؤتون أجرهم مرتين؛ تفضلا منه سبحانه ومنة، وفي طليعة هؤلاء صفوة الخليقة، أنبياء الله تعالى، فرفع مقامهم وأعلى قدرهم، وجعل لهم ميزات عظيمة، تجلت في مضاعفة الأجر. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك أصابته حمى، فقلت: إنك لتوعك وعكا شديدا؟ قال: “أجل، كما يوعك رجلان منكم”، فقلت: ذلك أن لك أجران؟ قال: “نعم”.
وممن يؤتون أجرهم مرتين المتعتع في قراءة القرآن والشاق عليه، في الصحيح: “الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه يتردد في تلاوته وهو عليه شاق، له أجران”، فمن جملة عناية الشريعة بالقرآن ترغيب الناس في قراءته بمضاعفة الأجور لقارئه، حتى جعلت لمن لم يحسن القراءة وتشق عليه أجرين، كما أسلفنا. ومن الأصناف التي خصّها الشرع بمضاعفة الأجر مؤمن أهل الكتاب إذا اعتنق الإسلام: {وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين، أولئك يؤتون أجرهم مرتين}، وفي السنة: “ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران”.
وممن يؤتون أجرهم مرتين: المتصدقون على الفقراء والمحتاجين، خاصة ذوي الأرحام، فشريعة ربنا رغّبت بالاهتمام بفقراء القرابة، فجعلت للمنفق عليهم أجرين؛ فعندما سألت زينب امرأة عبد الله بن مسعود بلالا رضي الله عنه فقالت: سل النبي صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق على زوجي، وأيتام لي في حجري؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “نعم لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة”.
ومنهم من تيمّم ثم أعاد الصلاة بعد أن وجد الماء؛ ففي الصحيح: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء؛ فتيمّما صعيدا طيّبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت؛ فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله فذكرا ذلك له؛ فقال للذي لم يعد: “أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك”، وقال للذي توضأ وأعاد: “لك الأجر مرتين”، وسبب المضاعفة كما قال الإمام الصنعاني رحمه الله: “أجر الصلاة بالتراب، وأجر الصلاة بالماء”.
وممن يؤتون أجرهم مضاعفا الحاكم إذا اجتهد فأصاب الحكم، فنظرا لأهمية القضاء بين الناس، جعل ربنا لمن أصاب فيه أجرين، ولمن أخطأ أجرا واحدا: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”. قال النووي رحمه الله: “أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده”، فالأجر الذي يأخذه المخطئ إنما هو لأجل اجتهاده في طلب الصواب، لا على خطئه، ولما كان الاجتهاد في طلب الحق عبادة، ترتب عليه الأجر.
ونختم بصنف ممن يؤتون أجرهم مرتين، وهو المتبعون للجنازة، المنتظرون الميّت حتى يوضع في القبر: “من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها؛ فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن؛ فإنه يرجع بقيراط”. قال أهل العلم: “أراد تعظيم الثواب فمثله للعيان بأعظم الجبال خلقا، وأكثرها النفوس المؤمنة حبا؛ لأنه الذي قال في حقه: “إنه جبل يحبنا ونحبه”.. والله ولي التوفيق.
*إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر