38serv
لا يمر يوم دون أن يعلن جيش الاحتلال الصهيوني عن حصيلة قتلاه وجرحاه في العملية البرية المجنونة التي يقودها في غزة ضد المدنيين وضد مقاومة محدودة العدد والعدة، ولا يمر أيضا يوم دون أن نسمع أصواتا من داخل الكيان والعواصم الغربية التي انحازت للموقف الصهيوني تطالب بوقف هذه الحرب العبثية ضد المدنيين الفلسطينيين وضد الإنسانية.
تتعالى هذه الأصوات لأن الكيان في اعتقادهم، قد خسر الحرب منذ اليوم الأول ولن يستطيع تحقيق أي هدف من الأهداف التي يرافع من أجلها رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، هذه الحرب التي تحدّث الجميع عن اليوم الأول لما بعد الحرب، ولكن ولا أحد تحدّث كيف ستكون عليه نتائج اليوم الأخير من الحرب ومن سيتحكّم في المعادلة، فهل ستفرض كل من واشنطن ومن ورائها دولة الكيان منطقها على قطاع غزة وستقرر من سيحكمه، وهل ستمنح الإدارة للسلطة الفلسطينية التي لم تتأخر في التقاط الإشارات الأمريكية لتقدّم نفسها كبديل لحماس؟ أم ستكون الكلمة للدول العربية التي تواطأت مع الاحتلال في حربه على غزة، والتي تعتقد بأن الصهاينة سيحسمون الحرب لصالحهم؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، يجب أن نعود إلى مسار الحرب الدائرة في غزة ولكن أيضا في الضفة الغربية وفي شمال فلسطين المحتلة، أين تدور عمليات قصف متبادلة بين جيش الاحتلال وحزب الله اللبناني وكدا فصائل المقاومة الفلسطينية المتمركزة في الجنوب اللبناني، وأيضا في عرض البحر الأحمر والممرات البحرية الدولية هناك، وفي العراق أيضا، وهي جبهات أصبحت تضغط على الاحتلال الإسرائيلي وعلى داعمه الرئيسي الولايات المتحدة، خاصة بسبب استهداف الحوثيين للسفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة للأراضي المحتلة وخلّفت أثارا كبيرة على حركة الملاحة في ميناء إيلات.
إلى جانب ضغط هذه الجبهات على مسار الحرب، تصنع فصائل المقاومة وعلى رأسها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة "حماس"، الفارق في ساحة المعركة، حيث استطاعت من جهة تكبيد الاحتلال خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة في تاريخ المواجهات مع الاحتلال، كما استطاعت أن تربح المعركة الدبلوماسية والإعلامية على المستوى الدولي، في ظل ارتفاع أسهم المقاومة ودرجة التعاطف الشعبي الدولي مع المدنيين الفلسطينيين، والانقلاب على الاحتلال الصهيوني وسردياته التي تهاوت أمام صور الدمار وحجم القتل والإرهاب الذي تمارسه آلة القتل الصهيونية في حق الأطفال والنساء والشيوخ.
وبعد مرور حوالي شهرين وعشرين يوما منذ بدء العمليات العسكرية الصهيونية، إلا أن قوات الاحتلال لم تستطع أن تحرز أي نصر على الأرض على حساب المقاومة، وما توهّمت أنه إنجاز سرعان ما تلاشى كزبد البحر، كما جرى عليه الأمر بعد إعلان الاحتلال اكتشافه ما وصفه أكبر نفق للمقاومة في غزة، لكن "القسام" ردّت على الدعاية الصهيونية بفيديو ساخر تحت عنوان "وصلتم متأخرين.. أنجزت المهمة"، حيث تبيّن أن النفق استخدم مرة واحدة خلال تنفيذ هجوم 7 أكتوبر وانتهت الخدمة به من يومها.
وفي خضم كل هذه الأحداث والمعارك والفاتورة البشرية غير المسبوقة التي تسببت فيها الحرب الهمجية الصهيونية على القطاع المحاصر، يجري الحديث في عواصم غربية وحتى عربية لا يريحها انتصار المقاومة، عن سيناريوهات ما بعد الحرب ومن سيحكم القطاع بعد "حماس"، وكأن جيش الاحتلال قد أنجز مهمة القضاء على المقاومة في غزة وانتصر على حماس، إلا أن الواقع يقول وبشهادة حتى كبار المسؤولين والسياسيين الإسرائيليين، بأنهم دخلوا في مستنقع يصعب الخروج منه وخسائره مكلّفة لهم ولمستقبل كيانهم، وأن سبيلهم الوحيد للتخفيف من آثار الهزيمة، يكون عبر وقف إطلاق النار والدخول في مفاوضات سياسية تقود لصفقة تبادل أسرى ستكون مؤلمة جدا.
لا يختلف اثنان أنه بالرغم من توغل الاحتلال إلى قطاع غزة ومواصلته تقتيل الأبرياء باستخدام أقصى قوته النارية وبأسلحة محرّمة دولية وبدعم عسكري أمريكي مفتوح، وبمساعدة ودعم من مرتزقة قدموا من مختلف الدول الصديقة للكيان، لكن كل هذا منع المقاومة من مواصلة فرض منطقها على الأرض وتوجيه ضربات موجعة للاحتلال دفعته لسحب قوات لواء "غولاني" التي تعتبر الأكثر تدريبا والأكثر تسليحا والأكثر دموية، كما أعطبت مئات الآليات العسكرية بالغة التحصين والتقنية كدبابات "ميركافا"، ما جعل صورة الكيان كقوة عسكرية لا تقهر، تتهاوى إلى القاع بعدما عبثت بها المقاومة في هجومها التاريخي على غلاف غزة وتفعل أيضا اليوم.
والقاعدة تقول من يتحكم في قواعد اللعبة هو من يملي شروطه، والمقاومة اليوم تتحكم في قواعد المعركة، ليس فقط عسكريا بل حتى إعلاميا، وعليه في المحصلة هي من ستملي شروطها. ومعلوم أن الحرب لن تكون إلى ما لا نهاية، لأن رصيد نتنياهو بدأ يتآكل داخليا وخارجيا، وانتصاره الاستراتيجي والحاسم الذي روّج له كثيرا لم ينجز منه ولا شيء، ولن يصبر الرأي العام الإسرائيلي أن يقتل باقي الرهائن بسلاح جيشهم ولا بمواصلة نزيف قواتهم بفعل نيران المقاومة، والكل سيرى ويشاهد أي صورة سيكون عليها اليوم الأخير من الحرب ومن سيقول الكلمة الأخيرة، هذه النتيجة لن تحدد مستقبل القطاع والقضية الفلسطينية، لكن ستغيّر المشهد وتقلّب الموازين في المنطقة برمّتها وسيدفع الثمن من وقف في الجانب الخطأ من التاريخ.