الشعب المالي يجهض مخططات تأزيم الخلاف مع الجزائر

38serv

+ -

مع وأد الشعب المالي مخطط تأزيم الخلاف بين الجزائر وباماكو عبر الدعوة لمظاهرات شعبية ضد الجزائر، تتضاءل مؤشرات تصعيد الأزمة الدبلوماسية بين البلدين أو امتدادها لدول الساحل، لكن كل الاحتمالات تبقى مطروحة في ظل تدخل قوى إقليمية وظيفية تسعى لخلق توترات جديدة تستهدف مقدرات الجزائر، وتقلص دورها في إدارة وساطات الحفاظ على السلم في محيطها الملتهب.

منذ بداية الأزمة الدبلوماسية التي شابت العلاقات بين الجزائر ومالي مؤخرا، عملت أطراف مأجورة موالية لدول إقليمية وظيفية على تأجيج الوضع أكثر، حيث شنت حملة تحريضية على مواقع التواصل الاجتماعي عبر حسابات أغلبها وهمية، ناشدت خلالها الشعب المالي الخروج في مظاهرات ضد الجزائر.

وعلى عكس آمال الأطراف المحرضة، لم تلب الجماهير الشعبية في مالي دعوات التظاهر، كما لم تنخرط السلطات الانتقالية من جهتها في حملة التحريض، فيما يبدو أنه إدراك منها بأهمية عدم انفلات الوضع مع الجزائر، رغم وصول العلاقات الثنائية في الأسابيع الماضية إلى وضع غير مسبوق.

 

شكوك حول موقف باماكو

 

قامت باماكو باستدعاء سفير الجزائر لديها في 20 ديسمبر الجاري، احتجاجا على ما وصفته بأنه تدخل في شؤونها الداخلية عقب استضافة بعض المسؤولين المعارضين للسلطة المالية، وذلك قبل أن تستدعي الجزائر هي الأخرى السفير المالي لديها للرد على الاتهامات، مؤكدة أن تحركاتها تتناسب تماما مع جهودها لدعم الاتفاق والمساعدة في إحلال السلام بمالي.

وكانت الجزائر قد أبلغت حكومة مالي بمباشرة سلسلة لقاءات مع أطراف النزاع من أجل إيجاد حل لحماية اتفاق السلم والمصالحة الموقع عام 2015، بعدما اشتدت المعارك ميدانيا بين الشمال والجنوب، والغريب أن السلطات الانتقالية -التي لم تعترض منذ سنوات على استقبال الجزائر لقادة الأزواد- بالغت هذه المرة في رد فعلها من استقبال الإمام محمد ديكو، ما يثير شكوكا حول أسباب ودوافع إقدام باماكو على هذه الخطوة التصعيدية.

 

مخاوف وهمية

 

بالرغم من الأسباب المعلنة لنشوب الأزمة التي تكشف عن مغالاة الجانب المالي في تصعيد الوضع، وفقا لمعطيات الوضع الراهن، فإن هناك جملة من الأبعاد يمكن أن تسهم في تفجر الخلافات بين الطرفين، من بينها بروز مخاوف وهمية لباماكو من احتمال دعم الجزائر لقادة حركات الأزواد المتمركزين في الشمال، لا سيما أنها تنخرط في عملية عسكرية شاملة ضدهم منذ أشهر، في حين أن من الطبيعي أن تستضيف الجزائر قادة الأزواد في إطار متابعتها لاتفاقية السلام، سيما أنها أكدت أنها تحتفظ بمبادئها الحاكمة تجاه مالي، والمرتبطة بالحرص على سيادتها، ووحدتها الوطنية وسلامة أراضيها، وتأكيد أن التسوية السلمية قادرة على ضمان السلم والأمن والاستقرار في الساحة المالية.

وتشعر مالي بالانزعاج من استضافة الجزائر لبعض الرموز المعارضة التي تنتقد المجلس العسكري الانتقالي، لا سيما الإمام محمود ديكو الذي يعتبر شخصية مركزية في الحياة السياسية في مالي، ويتجاوز تأثيره المجال الديني، ويوجه انتقادات شديدة للمجلس الحاكم في عدد من المناسبات، إذ تتخوف باماكو من أن تصبح الجزائر منصة لإيواء رموز المعارضة.

وقد أجهض الإمام ديكو هذه الفكرة في فيديو مسجل كشف فيه أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أبلغه خلال اللقاء الأخير بأن "الجزائر بنت أكبر مسجد فى إفريقيا والعالم بعد الحرمين، ليس للصلاة فحسب، بل به مرافق متعددة للعلماء والمفكرين، ويريد أن يكون لديكو مكان في المسجد". كما أكد له أن "الجزائر تسعى لإحياء مفاوضات السلام بين السلطة وحركات الأزواد، وإنهاء الصراع بينهما"، وشدد الإمام ديكو أنه لا يعمل ضد مالي.

 

محاولة تشتيت انتباه الداخل

 

من جانب آخر، تورطت النخبة العسكرية الحاكمة في مستنقع أزمات بالداخل المالي، في ضوء الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية خلال الفترة الأخيرة التي تولد المزيد من الاضطرابات في البلاد، ما قد يدفع نظام غويتا إلى محاولة تشتيت انتباه الداخل المالي عن أزمات الداخل بافتعال أزمات في الخارج، لا سيما بعدما انسحبت فرنسا نهائيا من البلاد، ولم يصبح هناك عدو خارجي يمكن للنظام الحاكم في باماكو أن يثير ضده النعرة الوطنية للرأي العام للالتفاف حوله، على حساب الأزمات المتراكمة الداخلية.

 

القوة الميدانية

 

وفي عامل آخر، أحرز الجيش المالي تقدما ضد الأزواد في الشمال خلال الفترة الأخيرة، خاصة بعدما استعاد السيطرة على كيدال، وذلك بالاستعانة بشركائه الدوليين، مثل الغطاء الجوي والدعم اللوجستي الذي توفره قوات "فاغنر"، بالإضافة إلى استقدام الطائرات المسيرة من طراز "بيرقدار" التركية التي حصلت عليها باماكو منذ فيفري 2023، ودخلت خط الاقتتال منذ أوت 2023، وهو ما يعزز قدرات الجيش مقارنة بالحركات المتمركزة في الشمال، ويقوي رغبته في حسم الصراع عسكريا لاستمراره في الحكم دون العودة إلى الأطراف الموقّعة على اتفاقية باماكو.

 

شبح عودة الاقتتال

 

وفيما يتعلق بالتبعات، قد يترتب على استمرار تصعيد التوتر بين الجزائر وباماكو انسحاب الأخيرة من اتفاق 2015، وهو ما يعني انخراط جميع الأطراف في الاقتتال مجددا بشكل يهدد أمن البلدين، ويمثل فرصة للتنظيمات الإرهابية لتوسيع نشاطها في هذه المناطق، بما يشكل تحديا لبعض المناطق الغنية بالنفط في جنوب الجزائر.

وقد يتأثر التنسيق الأمني بين الطرفين سلبا، بما يعنيه ذلك من تزايد التهديدات الأمنية في شمال مالي، واحتمالات اندلاع مواجهات عسكرية بشكل أوسع خلال الفترة المقبلة، إلى جانب الهجمات الإرهابية للتنظيمات النشطة هناك، بما يفاقم الأوضاع الإنسانية التي تدفع سكان هذه المناطق للجوء إلى الجزائر تحت وطأة التهديدات الأمنية، ما قد يترتب عليه تسلل بعض العناصر الإرهابية إلى جنوب الجزائر، وما يشكله من تهديد للأمن القومي.

 

عزلة النظام العسكري

 

بالمقابل، قد يفاقم استمرار الأزمة العزلة الإقليمية للنظام العسكري في مالي على الصعيد الإقليمي، خاصة بعدما توترت علاقات باماكو مع تكتل "إكواس" وعدد من القوى الدولية، لا سيما فرنسا، خلال العامين الماضيين، عقب الانقلاب العسكري الأخير في ماي 2021، الأمر الذي يعزز مخاوفه من كونه محاطا بحزام من "الأعداء" الإقليميين، وربما يعيد النظر في تسوية أزماته الإقليمية.

وبشكل عام، من المرجح أن يتجاوز الطرفان الأزمة الراهنة في وقت قريب، في ضوء حاجة كل طرف إلى الآخر في إطار سياق إقليمي مضطرب ومعقد أمنيا وسياسيا، فلا ترغب الجزائر في تلاشي علاقاتها التاريخية مع مالي حفاظا على أمنها القومي، بينما يدرك نظام باماكو حاجته إلى الجانب الجزائري، سواء في المسار التفاوضي مع الحركات "المتمردة"، أو في مسار المواجهة العسكرية، لضمان عدم لجوء عناصر تلك الحركات إلى الجزائر.

ومن ثم فإن المكاسب الاستراتيجية من تقارب الطرفين تفوق بكثير حالة التوتر أو القطيعة التي قد يتورطان فيها خلال الفترة المقبلة على المستويين الثنائي والإقليمي، ما يستدعي تفضيل قنوات الحوار لحل التوتر سريعا.

 

كلمات دلالية: