38serv
ورد في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد؛ يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله”. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله قوله: “يتبعه أهله وماله وعمله” هذا يقع في الأغلب، ورب ميت لا يتبعه إلا عمله فقط، والمراد من يتبع جنازته من أهله ورفقته ودوابه على ما جرت به عادة العرب، وإذا انقضى أمر الحزن عليه رجعوا، سواء أقاموا بعد الدفن أم لا، ومعنى بقاء عمله أنه يدخل معه القبر. فابن آدم في هذه الدنيا لا بد له من أهل يقوم بينهم، ولا بد له من مال يقتات به، وهذان المصاحبان لا بد أن يفارقاه ويفارقهما، فالسعيد من اتخذ من ذلك ما يعينه على ذكر الله، فيأخذ من المال ما يبلغ به إلى الآخرة، ويتخذ زوجة صالحة تعينه على إيمانه، فأما من اتخذ أهلا ومالا يشغلونه عن الله فهو خاسر: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}. وفي مستدرك الحاكم، جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، ثم قال: يا محمد إن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس”.
فابن آدم إذا مات وانتقل من هذه الدار الفانية، لم ينتفع من أهله وماله بشيء إلا بدعاء أهله واستغفارهم له، وبما قدمه من ماله بين يديه: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم}، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
فأما الرفيق الأول، الأهل، فهو لا ينتفع منهم بشيء إلا من استغفر له ودعا له وقد لا يفعلون، بل قد يكون الأجنبي أنفع للميت من أهله: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}.
وأما الرفيق الثاني، وهو المال، فيرجع عن صاحبه، ولا يدخل معه في قبره، ورجوعه كناية عن عدم مصاحبته له في قبره، ودخوله معه. يقول مطرف بن عبد الله: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {ألهاكم التكاثر}، قال: يقول ابن آدم: مالي مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت”، وعند البخاري من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله”؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: “فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر”. فلا ينتفع العبد من ماله إلا بما قدمه لنفسه، وأنفقه في سبيل الله عز وجل، فأما ما أكله ولبسه فإنه لا له ولا عليه، إلا أن يكون ذا نية صالحة. وقال بعضهم لأبي حازم: يا إمام ما بالنا نكره الموت؟ فقال: لتعظيمكم الدنيا، جعلتم مالكم بين أعينكم، فأنتم تكرهون فراقه، ولو قدمتموه لآخرتكم لأحببتم اللحوق به: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم}. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله قدمه لله، حتى كان يوما راكبا على ناقة فأعجبته، فنزل عنها في الحال وقلدها، وجعلها في سبيل الله.
وأما الرفيق الثالث، فهو العمل الذي يدخل مع صاحبه في قبره، فيكون معه فيه، ويكون معه إذا بعث، ويكون معه في مواقف القيامة، وعلى الصراط، وعند الميزان، وبه تقسم المنازل في الجنة والنار: {من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون} أي: يمهدون لأنفسهم في القبر. فالعمل الصالح يكون مهادا لصاحبه في قبره، حيث لا يكون للعبد من متاع الدنيا فراش ولا وساد ولا مهاد، بل كل عامل يفترش عمله ويتوسده إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فالعاقل من عمّر بيته الذي تطول إقامته فيه، ولو عمّره بخراب بيته الذي يرتحل عنه قريبا لم يكن مغبونا بل يكون رابحا.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب، بن غازي، براقي