38serv
مرت، أمس، الذكرى الـ67 لاستشهاد أحد أبطال الجزائر ومهندس من مهندسي الثورة المجيدة، الشهيد محمد العربي بن مهيدي، الملقب بحكيم الثورة الجزائرية، ومرعب فرنسا الاستعمارية، البطل الذي نجد اسمه مذكورا في أغلب المحطات الحاسمة التي عرفتها الثورة، سواء قبل انطلاقها أو بعده، عملاق لا تكفي الأسطر لوصف شجاعته وحنكته وحبه للوطن، إنه الشهيد الذي كتب اسمه بأحرف من ذهب، وواجه كبار جنرالات فرنسا، منهم السفاح بول أوساريس الذي أعدمه ليلة 3 إلى 4 مارس 1957، واعترف بجريمته عام 2001.
قال المؤرخ رابح لونيسي إن الشهيد محمد العربي بن مهيدي يعدّ أحد الرموز الكبرى لثورتنا التحريرية، وكان من قادة التنظيم المسمى بـ"المنظمة الخاصة"، فعمل تحت القيادة المباشرة لمحمد بوضياف في الشرق الجزائري، وقد كان هذا التنظيم وراء إشعال الثورة التحريرية في أول نوفمبر 1954، فمنه انبثقت جبهة وجيش التحرير الوطنيين.
كان يفكر حتى في السياسة الواجب إتباعها بعد الاستقلال
تحدث لونيسي عن صرخة بن مهيدي في اجتماع 22 بالمدنية "أرموا بالثورة إلى الشارع، يحتضنها الشعب"، ما يدل على مدى ثقته في الشعب الجزائري، وهو ما حصل فعلا بعد إشعال الثورة التحريرية على يد ثلة قليلة من المجاهدين. وأكد لونيسي أنه يعرف عن بن مهيدي دوره في تنظيم الثورة بالغرب الجزائري، ثم دوره البارز في تنظيم مؤتمر الصومام وصياغة أرضيته، فبن مهيدي كان يفكر حتى في السياسة الواجب إتباعها بعد استرجاع الاستقلال، فسر بيان أول نوفمبر 1954 الذي كان أحد واضعيه، وذلك في مقالته الشهيرة بعنوان "الثورة والاشتراكية" في المجاهد، لسان حال جبهة التحرير الوطني. وأضاف الدكتور أن بن مهيدي اختير رئيسا لمؤتمر الصومام ثم عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ مكلفا بالعمل المسلح في المدن، فكان هو من أبرز المخططين لمعركة الجزائر التي لعبت دورا بارزا في إيصال القضية الجزائرية إلى أسماع العالم، مضيفا ويقال إنه كان من أشدّ الحريصين على إنجاح إضراب الثمانية أيام في أواخر جانفي وبدايات فيفري من عام 1957، أين ألقي القبض عليه في خضم معركة الجزائر، ليتم إعدامه بعد تعذيب يندى له الجبين.
كما تعرض الدكتور لونيسي إلى النقاشات التي أثيرت حول العربي بن مهيدي، منها حول وقوعه في يد البوليس الاستعماري، أين حاول البعض إلصاق تهمة الخيانة لتشويه بعض المجاهدين، في إطار توظيف الذاكرة لأهداف سياسوية وتصفية حسابات مع الخصوم السياسيين بعد استرجاع الاستقلال. لكن يوضح أن كل الشهادات، سواء الفرنسية أو الجزائرية، أجمعت بأنه اعتقل صدفة، وأن البوليس الاستعماري جاء لاعتقال بن يوسف بن خدة، ليقع يده على العربي بن مهيدي.
ويشير لونيسي إلى أنه من النقاشات التي أثيرت حوله أيضا سعي الاستعمار إلى تشويهه بالقول إنه انتحر، وهو في الحقيقة تم إعدامه، وذلك باعتراف أوساريس، وأيضا بيجار الذي غضب لإعدامه، لأن الأمر اتخذ خارج إرادته، فبيجار من الذين أعجبوا ببن مهيدي، ليقول فيه مقولته الشهيرة "لو أملك 10 مثله لفتحت العالم"، فقد تناقش معه كثيرا وذكره بكل الإعجاب، سواء في مذكراته أو في حواره الطويل الذي أجراه مع أسبوعية "الجزائر الأحداث" في 1985، كما روى الكثير عن أواخر أيام بن مهيدي لأخته التي التقت به بباريس في الثمانينيات.
ويذكر لونيسي أن ما قاله أوساريس في مذكراته عن إعدام بن مهيدي ليس جديدا في حقيقة الأمر، بل قال به أحمد بن بلة، كما أكده لأخته، حيث قال إنه عندما أعيد دفن رفاته في مقبرة الشهداء بالعالية غداة استرجاع الاستقلال، لوحظ أثر الرصاصات خلفه، وهو ما يعني أنه أعدم بالرصاص، كما يقول أوساريس بعد عقود من ذلك. لكن يبقى السؤال حسب لونيسي: هل اتخذ القرار فرديا من مجموعة أوساريس والذي كان يعرف آنذاك بالكومندان"o"، بصفته قائدا لمجموعة تقوم بعمليات إعدام والرمي في الحفر لكل من تعرض لتعذيب شديد وميؤوس منه للبوح بأي أسرار؟.
يجب توظيف السينما للتأثر إقليميا وعالميا
وثمّن لونيسي قرار السماح بعرض فيلم "العربي بن مهيدي" لكي يعرف، حسبه، شبابنا بطولات بن مهيدي، راجيا أن يكون ذلك "بداية لإنتاج أفلام ومسلسلات أخرى عن رموزنا وأبطالنا عبر كل تاريخنا الطويل، فذكراهم تترسخ في أذهان الشباب بواسطة الصورة أكثر من الكتب، فصورة واحدة تؤثر أكثر من مئات الكتب".
وختم لونيسي بالقول إنه حان الوقت، اليوم، لتوظيف السينما والأفلام والمسلسلات والروايات التاريخية ليس للحفاظ على الذاكرة فقط، بل للتأثير إقليميا وعالميا بإيصال تاريخنا وتضحيات شعبنا وبطولاته إلى شعوب العالم.. ونعتقد بأن إنشاء تخصص الفنون يستهدف إقامة سينما جزائرية عالمية بمخرجين وممثلين وكتاب سيناريو كبار وذوو تكوين عال، ولعل الاتفاقية التي عقدتها الجزائر مع تركيا حول التعاون السينمائي عند زيارة أردوغان الأخيرة إلى الجزائر ستفيدنا في ذلك.
ظريفة بن مهيدي وحيثيات إعدام أخيها الشهيد
تحدث البروفيسور سفيان لوصيف من جامعة سطيف 2 عن قضية الجنرال أوساريس وإعدام الشهيد البطل العربي بن مهيدي، وفضل أن يكون تصريحه اعتمادا على شهادة ظريفة بن مهيدي، شقيقة البطل العربي بن مهيدي، حيث قال في تصريح لـ"الخبر" على لسان شقيقة الشهيد "أوساريس لم يكن معروفا باسمه هذا أثناء الثورة، بل كان يطلق عليه اسم مستعار وهو الرائد 5، وهو سفاك ومجرم وكلب مسعور، علما أن هناك من كان وراءه لإعطائه أوامر ينفذها ضد شقيقي، وهم الجنرالات ووزير الدفاع وميتيران الذي كان وزير الداخلية آنذاك، وهم الذين أمروا بتعذيبه تعذيبا فظيعا، وكل الحكومة الفرنسية آنذاك على علم بما يسلط عليه من تعذيب وحشي على الثوار، وبالتالي فإن أوساريس عاجز عن اقتراف كل الجرائم لوحده أو من تلقاء نفسه، وأنا لا أشك في أن شخصيات فرنسية متورطة في تعذيب شقيقي".
وأكد البروفيسور أنها لا زالت تصرّ على متابعة المجرمين الفرنسيين، حيث قالت "أطالب بمحاكمة ضباط الجيش الفرنسي المجرمين، أطالب فرنسا بالاعتذار كما فعلت مع ألمانيا أمام فرنسا، أن تعترف بجرائمها وما أكثرها لأن ما فعلته ليس بقليل، لذلك فإنه لو أعطتني فرنسا باريس كلها لتصبح ملكي الخاص، فلن يعوّض ذلك دم شقيقي العربي.. وأصرّ على المطالبة بالشريط التسجيلي التعذيبي لشقيقي في زنزانته، أريد أن يكون هذا في الأرشيف الجزائري، خاصة أنني عرفت من بعض الجهات أن أوساريس كان يطلب تسجيل تصوير شقيقي أثناء التعذيب، وتسجيل كل ما يقع له كقطع بعض الأجزاء من لحمه"، وأضافت على لسان البروفيسور "وقيل لي بهدف أن يشاهد ميتيران الشريط ويطلع على جرائم قادته، وقد رفضت أن تنتهي القضية بمحاكمة أوساريس وحرمانه من الأوسمة الشرفية، وطالبت بمحاكمة كل الضباط والجنرالات الفرنسيين المتورطين في القضية أمام الرأي العام العالمي".
وأوضح لوصيف وانطلاقا من شهادة ظريفة بن مهيدي أنه "بعد إعدام شقيقي، ذهب والدي وقابل بيجار الذي عرف مكانه عن طريق أصدقاء العربي، فظن بيجار أن الضيف باشا آغا يحمل له أخبارا جديدة، لكن سرعان ما اندهش لما علم أنه والد العربي بن مهيدي الذي كانت صورته على مكتبه في تلك اللحظة، فلما سأله من أنت، رد عليه والدي أنا والد هذا، مشيرا إلى الصورة على المكتب، فأعطاه بيجار رقم الصندوق الذي يوجد فيه الشهيد العربي واشترط عليه عدم فتحه". وأضافت "وبعد الاستقلال، أعطى والدي رقم القبر للجهات المسؤولة، وتم نقل العربي إلى مربع الشهداء بالعالية، ذهب والدي لرؤيته رفقة زوجي حساني عبد الكريم ورابح بيطاط وابن عمي وأصدقاء العربي، كنت حينها حاملا، فمنعني أبي من رؤيته... مؤكدين أن آثار الرصاص والتعذيب كانت بادية على جسمه، وهو ما أخاف بيجار الذي اشترط عدم فتح الصندوق".
كان مقتنعا بمعركة المدينة من أجل الضغط على فرنسا للتفاوض
من جهتها، صرّحت الدكتورة ليلى بلقاسم، من جامعة غليزان، أن الشهيد العربي بن مهيدي يعدّ شخصية وطنية صقل تكوينه في المدرسة الوطنية الجزائرية بداية من الأسرة المحافظة على القيم الإسلامية الجزائرية، والانخراط في الكشافة الإسلامية وحزب الشعب الجزائري إلى المنظمة الخاصة، لينهض بمسؤوليات كبرى خلال الثورة المسلحة في قيادة المنطقة الخامسة – وهران، فتمكن، حسبه، من رسم استراتيجيات الثورة السياسية والعسكرية داخليا كعضو في لجنة التنسيق والتنفيذ، ليحظى برمزية تاريخية إلى يومنا هذا، من خلال التضحية والصلابة التي أبداها خلال التحقيق والتعذيب أمام جلاديه والتي لا زالت مرسومة في ذاكرة الجزائريين، ودفعت العدو إلى الاعتراف بشجاعته، ومنه بيجار.
كما تحدثت عن انخراط الشهيد في المنظمة الخاصة التي أصبح من أبرز الفاعلين فيها "حيث تولى مسؤولية الجناح العسكري بسطيف، ثم نائبا لمحمد بوضياف على الشرق الجزائري، ثم خلفه على هذا الإقليم سنة 1949، وكانت قسنطينة مركز نشاطه، وقد بذل جهودا جبّارة في تكوين الخلايا وتدريب الإطارات المنظمة، ومنهم رابح بيطاط ومحمد مشاطي... وهنا، أدرك العربي بن مهدي رغبة الجزائريين في الانعتاق من كنف الاستعمار الفرنسي واستعداده للثورة المسلحة". كما أوضحت الدكتورة بلقاسم أن ما ميّز بن مهيدي هو كثرة التنقل بين مناطق الشرق الجزائري، وعلى إثر حادثة تبسة واكتشاف المنظمة الخاصة وما رافقها من حملة الاعتقالات تمكن بن مهيدي من الإفلات بعد أن حكم عليه بـ 10 سنوات من السجن، في وقت تميز، حسبها، بإنكار حزب الشعب الجزائري لوصياته على المنظمة والتماطل في إعادة تشكيلها، ما جعله ينقم على قيادة الحزب في وقت ظل ملازما لمحمد بوضياف "وفي عام 1952، وقع تعيينه رفقة أبرز قياديي الحزب في مدن القطاع الوهراني، وفي تلمسان بالتحديد، واصل تكوين الإطارات والتحضير السري للعمل الثوري، ليشارك في تأسيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل في 23 مارس 1954"، وذكرت أن له أيضا دورا حاسما في اجتماع 22 جوان 1954، وقد جادل بعض المتردّدين في الإعلان عن اندلاع الثورة بمقولته: "ارموا بالثورة للشعب يحتضنها". ليعيّن، حسبها، في اللجنة القيادية لتفجير الثورة، وعمل إلى جانب المنسق العام محمد بوضياف، وفي اجتماع 23 أكتوبر 1954، عيّن كقائد لمنطقة وهران مشكلا أفواجا من 5 أشخاص، موزعة على مختلف مناطق وهران، ومنه فوج بن عبد المالك رمضان الذي شنّ الهجوم الأول في نواحي سيدي علي بمستغانم وفوج عبد الحفيظ بوصوف بتلمسان وفوج ابن علة بوهران.
وحسب الدكتورة، فإنه لما ترأس بن مهيدي مؤتمر الصومام، عمل جاهدا من أجل توحيد القيادة وتقريب الرؤى، في وقت زادت قناعاته بمعركة المدينة والعمل الثوري الفدائي في المدن ذات الكثافة الأوروبية من أجل الضغط على فرنسا والتفاوض، فحرص، تقول، على ضبط المخططات ليشرع في الاجتماع بقادة الأفواج وتشكيل الفروع في جميع أحياء العاصمة، بالخصوص القصبة، وأصرّ على صناعة المتفجرات وتجنيد النساء اللواتي لا يثرن الشكوك، ليصنع ملحمة معركة الجزائر الخالدة "ثم جاء إضراب الثمانية أيام الذي تزامن مع عرض القضية الجزائرية في الأمم المتحدة ليتعرّف الرأي العام العالمي على القضية الجزائرية، إلى غاية مداهمة الشقة التي لجأ إليها في الحي الأوروبي في 23 فيفري 1957، ليواجه جلاديه برباطة جأش لتنتهي عملية التحقيق بالتعذيب وإعدامه شنقا على يد السفاح أوساريس والإعلان عن انتحاره، ليسجل صورة بطولية في الوطنية والشهادة".