38serv
روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يُفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يُغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة”.
مما يسعى إليه المؤمن ومما ينشده في دنياه يوم يغادرها رضوان ربه، ونصوص الوحي حافلة بتنبيه الله عباده إلى أن الفوز الحقيقي هو أن يبعدوا عن النار، ويدخلوا الجنة، وهو ما يسعى إليه الأخيار من عباد الله الفطناء: {فمن زُحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
ومما ورد في الحديث الذي صدرنا به المقال قول المعصوم: “ولله عتقاء من النار”، فالعتق من النار أن الله تعالى يقضي ألا يدخل العبد النار أبدا، كما أنه يأمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر؛ فالعتق أرقى من المغفرة؛ فإن المغفرة تعني أن الذنوب تُمحى، لكن الإنسان بعد المغفرة قد يأتي بذنوب أخرى فيحاسب، أما العتق فإنه لا يدخل النار أبدا، مهما ارتكب من الذنوب، وذلك أن من علامات العبد المعتوق أنه يوفق للتوبة، فتراه يسارع بالتوبة والاستغفار بعد كل ذنب، حتى يلقى ربه وهو على هذا الحال.
وأسباب العتق وخاصة في هذه الليالي المباركات كثيرة وفي مقدمتها الإخلاص في الإيمان والعمل من صلاة وصيام، يقول المعصوم: “لن يُوافِيَ عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله يبتغي به وجه الله إلا حرّم الله عليه النار”، فالإخلاص في الصيام والقيام وسائر القربات سبب للعتق. ومن الأسباب المحافظة على المكتوبات جماعة: “من صلَّى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق”، والحكمة في عدد الأربعين أن الملازمة للطاعة إذا استمرت طوال هذه المدة فالغالب أن المكلف يتلذذ بالعبادة، ويذهب عنه كلفة المجتهدين.
ومن أسباب المحافظة على صلاتي الفجر والعصر: “لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها”، ومنها المحافظة على أربع ركعات قبل صلاة الظهر وبعدها: “من حافظَ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرّمه الله على النار”، فهذا الفضل العظيم لا يحصُل عليه إلا من حافظَ وواظب على هذه الركعات. ومن ذلك القيام في العشر الأواخر من رمضان وتحرّي ليلة القدر؛ فقد أثر عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن دعاء تستقبل به ليالي القدر، فقال قولي: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.
ومن أسباب العتق الدعاء بإلحاح، ففي صفات عباد الرحمن: {والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما}. ورد أنه صلّى الله عليه وسلم قال لرجل: “كيف تقول في الصلاة؟ قال: أتشهّد، وأقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أُحسِن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال صلّى الله عليه وسلم: حولها نُدَنْدِنُ”. ومن أسباب العتق كثرة الخُطَى إلى المساجد، والسعي في قضاء حوائج الإخوان: “من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار”.
وأخيرا وليس آخرا التلبس بالأخلاق الحسنة: “ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هيِّنٍ سهل”، ومعلوم أنه في شهر رمضان تتغير أخلاق الصائمين إلى الأحسن، وتتبدل السلوكيات، وتتحسن التصرفات، فالصيام مدرسة جامعة لتقويم الأخلاق وتحسينها امتثالا للتوجيه النبوي: “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم”. والله الموفق.
إمام مسجد عمر بن الخطاب – بن غازي - براقي