+ -

 يخفت بريق الغرب شيئا فشيئا. يكف عن اللمعان، مثلما كان، وينحدر الإعجاب الذي كان يلمنا به ونحن في زهرة العمر. يتراجع هذا الغرب كإغواء، ويترك مكانه لإحساس بالخديعة. فالغرب بقي كما كان، شرها، عدوانيا، رغم تطمينات الفلاسفة والمفكرين. يدفع إلى السؤال، والشعور بالتماهي معه، لكن انفصاميته وازدواجيته تؤدي إلى التراجع عن الإغواء، وترك الوله به جانبا، وقد أصبحت حالة من الشك.ينطبق هذا الشعور على هذه العولمة التي أنتجها الغرب، وعلبها، وبعث بها إلينا منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، فتلقيناها في غمرة التخلص من الاستبداد، فداوت جراحنا، وملأتنا سعادة. هذا ما استخلصته وأنا أنتهي من قراءة مقال كتبه الباحث والأكاديمي غريغوار ميرشو، نشره في العدد ما قبل الأخير من صحيفة “لوموند ديبوماتيك”، جاء فيه أن الثورات العربية الأخيرة، أو ما أصبح يصطلح عليه بـ«الربيع العربي”، تندرج ضمن محاولات النظام العالمي الاستهلاكي الجديد الحد من عمل الدولة الرعائية في العالم العربي، واستبدالها بحالة من “البزار” المخيف.واعتبر أن هذا النظام “لا يريد للديمقراطيّة المفخّخة  تمكين الجماهير من التحكّم في مصيرها، وإنّما هي أداته في اقتحام الحدود وإعطاب الدولة القوميّة المركزيّة الصغيرة حتّى يتسنى لهذا النظام قولبة البشر وإزالة العوائق الإنسانية والأخلاقية”.أما عن الهدف من هذه العملية، فهو تحقيق “تسليع الشعوب المستهدفة وما لديها من رساميل معنوية وماديّة واستباحتها بغية إعادة التقسيم والهيكلة لدويلات على قواعد مذهبيّة أو دينيّة أو إثنيّة”، حيث يصبح الجميع سواسية مثل أسنان المشط الأمريكي الذي يصفه ميرشو بالبلاستيكي. على أثر ذلك “يتمّ التخفيف من عبء الهويّة والضمير والاختيارات الأخلاقية المركّبة. ويتمّ طرح سنغافورة مثلاً أعلى يُحتذى به، وهي بلدٌ معقّم من التاريخ والذاكرة، إذ أنّها شوارع إسفلتية عرضيّة وأبراج إسمنتية تشكّل مجموعة هائلة من المصانع، والمتاجر والملاهي. هذا ما يُراد (ولكن على شكلٍ أسوأ) لبلدانٍ كمصر ولبنان والأردن وسوريا وغيرها من البلدان العربية وغير العربيّة، من خلال تجزئتها إلى كيانات مصَغرة ممصوصة القوى على شكل جزرٍ مقطوعة الأوصال، منهوبة متاحفها وكنوزها الأثريّة وثرواتها الطبيعية كما حصل في العراق وليبيا ويحصل اليوم في سورية”. وعلى ذكر التجرد من التاريخ وصناعة الإنسان الجديد (الاستهلاكي والمُعولم)، استمعت مؤخرا لأصوات اعتبرت التاريخ كمضيعة للوقت. وهذا بالضبط ما تريده العولمة، تريد إنسانا مجردا من الذات، يكنّ كرها شديدا للوطنية، ويمتاز بميل لا يقاوم للاستهلاك. ولهذا السبب عولت العولمة على التيارات الإسلامية، واعتبرتها بمثابة القوى القادرة على تحقيق “الديمقراطية” في العالم العربي، والتي لا تتناقض مع الاستهلاك، حتى يتم إضفاء طابع “الشرعية الدينية” على الأنظمة التي تحقق “الديمقراطية والاستهلاك” معا، وليس الديمقراطية والتعددية، والدولة القوية التي تضمن إنتاج الخيرات عبر توفير فرص العمل والاستثمار.وبالعودة إلى مقال ميرشو، نجده يستنتج، استنادا إلى استنتاجات المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، بالأخص في كتابه الشهير “الحداثة وما بعد الحداثة.. حوارات القرن الجديد”، أنه بهذا المعنى يمكن القول بأنّ النظام الجديد هو إمبريالية ما بعد حداثية، حيث سيجد الإنسان نفسه في عالمٍ بلا تاريخ وبلا ذاكرة (كما يحصل في العراق وفلسطين وفي سورية)، تتفكّك فيه علاقة الدال بالمدلول، وينزلق فيه الإنسان من الخصوصيّة الإنسانيّة التاريخية إلى عالم الطبيعة والمادّة والجنس. تحيط به إمبريالية ناعمة في دورانها مطابقة لدوران حريّة السوق والاقتصاد، مدمّرة في مفاعيلها، تأبى أن تسمّي نفسها إمبريالية.. وإنّما النظام الدولي الجديد”.وتكمن المخاطر في معظم النظريّات ما بعد الحداثية، حسب صاحب المقال، حينما تفضي باهتمامها وبمزيد من الإصرار لا إلى هدم نمط أشكال السلطة فقط، وإنما إلى تقليص مهمّات الدولة (من زاوية النظرية الاشتراكية)، التي يخيّل لها إنها هاربة منها لا تلبث أن تسقط في غفلة في أحضان وقبضة السلطة الجديدة المتمثلة اليوم بالليبراليين الجدد على اختلاف ألوان جلدتهم. وجاء في المقال: “من هذا المنظور، يمكن لحملة التأكيدات التهليليّة الاحتفالية لفرسان ما بعد الحداثة النخبوية وظلالهم في عالم الجنوب، وبالتحديد في المشرق والمغرب العربيين، أن تبدو في قسمٍ منها ساذجة في تفاؤليّتها، إن لم أقلّ مضلّلة إلى حدٍّ خطير في دعواها”.والدليل الذي يقدمه ميرشو بشأن اعتداءات هذه الظاهرة الكونية (والتي جعلته يستشهد بكتابات توني نيغري وميكاييل هاردت المعادية للعولمة المتوحشة)، يكمن في كون أن “إيديولوجيّة إطلاق العنان لحرية السوق العالمية ظلّت باستمرار الخطاب المعادي لتدخّلات الدولة الرعائية للمجتمع، ما يعني أن ما بعد الحداثة أضحى مرادفا لإزالة واضحة للدولة التي تكفل الحماية الاجتماعية، بعد أن أصبح ينظر إليها كمرادف للدولة القهرية والتسلطية”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: