38serv
إن رسالة الرئيس ماكرون التي يتنازل بموجبها عن أراضٍ لا يملكها لدولة ثانية هي حدث يحتاج فهمه استدعاء الأنثروبولوجيا الاستعمارية وليس الجغرافيا السياسية.
في الواقع، هذا ليس تغييرا في الموقف الفرنسي الذي لم يتغير منذ عام 1975، وهو العام الذي تخلت فيه إسبانيا عن الصحراء الغربية وغزاها المغرب وتدخلت فيه القوات الجوية الفرنسية ضد قوات البوليساريو العسكرية.
لم يكن الملك الحسن الثاني قد حصل من الجنرال ديغول على وعد ببتر الجزائر من أراضيها النوميدية، التي وحّدها الملك ماسينيسا منذ أكثر من 2000 سنة بحدود ثابتة أقدم من حدود فرنسا والمغرب، والتي أعيد توحيدها مع فاليري جيسكار ديستان كنوع من التعويض الإقليمي المؤجل بروح مؤتمر برلين لعام 1885 - الذي قسم الممالك والإمبراطوريات الإفريقية الكبرى - من خلال تشجيع الرباط على ضم الصحراء الغربية.
وبداية من عام 1977، استخدم جيسكار ديستان كل أشكال الابتزاز لإجبار الجزائر على التنازل، وكان أبرز هذه الأشكال هو المغادرة الطوعية أو القسرية لـ35,000 عامل جزائري مهاجر من فرنسا سنويا، ووصلوا إلى نصف مليون في 5 سنوات إذا ما حسبنا النساء والأطفال، لعكس تدفق الهجرة المنظم بموجب اتفاقية 1968 الشهيرة.
يجدر التذكير بأن هذا الاتفاق تم التوصل إليه بسبب حاجة فرنسا الكبيرة إلى اليد العاملة وكان يندرج في روح اتفاقيات إيفيان التي تتضمن تنازلات جزائرية كبيرة في بنودها العسكرية، ولاسيما وجود القواعد والتجارب النووية. كما كانت الإجراءات التي اتخذها الرئيس السابق تهدف أيضا إلى جعل الجزائر تدفع ثمن سياستها الإفريقية وإضعاف النظام الجزائري غير المنحاز والقريب من الكتلة الاشتراكية، وقد طُبقت في البداية بطريقة كانت خانقة بالنسبة لنا، لكن لحسن الحظ تم تجاوزها بوصول فرانسوا ميتران سنة 1981.
إن اتفاقية 1968، التي ارتقت إلى مرتبة الأولوية الاستراتيجية في النقاش الداخلي الفرنسي - خاصة في فترات الانتخابات - لم تعد ذات فائدة للجزائر، لأنها لم تعد تقدم أي مزايا مقارنة مع الأنظمة الأخرى، بل إنها ستشجع على هروب الكفاءات. يجب أن نستخلص منها لأننا لن نخسر شيئا، بل على العكس من ذلك، سنكسب من خلال عدم وجودنا في قلب النقاش الداخلي في فرنسا، والتقليل من "الجزائروفوبيا" السائدة. إذا لم تكن لدينا قوة ناعمة فعالة، فعلينا ألا نشجع على مضاعفة نقاط ضعفنا.
وبنفس هذه الروح وبنفس الدوافع الخفية تم التفكير في خطة الحكم الذاتي المغربي لعام 2007، وتم تصورها وصياغتها منذ عام 2006 في قصر أورسيه في عهد جاك شيراك ثم أعاد نيكولا ساركوزي طرحها بعد عام واحد. كانت الخطة قد أثارت بالفعل تحفظات داخل المخزن نفسه، خاصة من قبل وزير الداخلية آنذاك، إدريس البصري، الذي شعر أن الحكم الذاتي يمكن أن يخلق سابقة يمكن أن تستغلها الحركات الاستقلالية في الريف المجاور.
قد يستجيب النموذج الإقليمي الألماني لمطلب مغربي داخلي، لكنه لا يمكن أن يكون ملزما لهذا البلد إلا داخل حدوده الدولية. أما الرغبة في فرض هذا النموذج على الصحراويين فهذا إنكار لحق تقرير المصير ما دام أن محكمة العدل الدولية حكمت في عام 1975 بعدم وجود روابط الولاء التاريخي مع سلطان المغرب. وينبغي التذكير بأن نيكولا ساركوزي كان أيضا وراء الخداع الذي قدم التوبة كمطلب جزائري مزعوم كشرط مسبق لأي تطبيع للعلاقات مع فرنسا. في الواقع، لم يسبق للجزائر، من الرئيس بن بلة إلى تبون، أن تقدمت بمثل هذا الطلب، ولم يسبق لها أن استعملت هذا المصطلح الذي يعتبر في بلادنا أمرا دينيا، بينما يستعمله السياسيون الفرنسيون كوسيلة لتنفير الناس من مسؤولية فرنسا في جرائم الحرب، ومن قبل بعض النخب كسردية وكوقود للإعلام الفرنسي.
لقد تكررت في الآونة الأخيرة على ألسنة جهات في الدوائر الرسمية ووسائل الإعلام الفرنسية مرارا وتكرارا تلك الانتقائية الجزائرية المنسوبة للرئيس ماكرون في حق الجزائر، وأحيانا يتم الترويج لها لتبرير ما يتم تقديمه على أنه خيبة أمل كانت ستفضي إلى حدوث تغيير في العلاقات بين البلدين.
لكن هذا هو نفس الرئيس الذي عبّر في 2002 عن إنكاره لتاريخ الجزائر مقدما إياها على أنها نتاج ثانوي للاستعمار ومحرريها البواسل، المجاهدين، على أنهم من مخلفات التاريخ.
كيف لنا أن ندّعي أن مصير الصحراء الغربية مرهون بنوعية العلاقات الجزائرية الفرنسية دون أن نجازف بتقديم الجزائر كبلد لا يحمل عقيدة مناهضة للاستعمار، مما يضعنا في تناقض مع هويتنا ومع أبسط مبادئ حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها؟
تتجاهل رسالة الرئيس ماكرون الشعب الصحراوي، على الرغم من أنه ليس لها أي أثر قانوني، تماما مثل رسالة ترامب، وتنتحل لنفسه الحق النابليوني في التنازل عن سيادات الغير كما كان الحال في الأيام المباركة للإمبراطوريات.
والواقع أن الموقف الفرنسي يبرر أساسا بكون المغرب حليفا تاريخيا مخلصا للغرب وبكونه مدعوما من دول الخليج دون قيد أو شرط وبكونه الصديق الوحيد لإسرائيل في منطقتنا. وعلاوة على ذلك، فإن تأكيد ما يسمى بالجنوب الشامل كلاعب دبلوماسي رئيسي يُدخل الجزائر في دائرة الدول التي تُقدم على أنها معادية للغرب. وأخيرا، فإن موقف الجزائر الثابت من القضية الفلسطينية يبعث على القلق ويسبب توترا داخل جامعة الدول العربية ويتسبب في توتر داخل الجامعة العربية وضغوطات في نيويورك خصوصا.
وحتى إن لم يكن هذا الوضع جديدا، إلا أنه يستدعي مراجعة بعض البراديغمات في الجغرافيا السياسية للجزائر. فبالنسبة لأوروبا، تعتبر بلادنا سوقا دون حواجز جمركية ولا مقابل لها من حيث الاستثمارات عندنا، فضلا عن كونها موردا متميزا وموثوقا به لمنتجات الطاقة وموردا محتملا للهيدروجين الأخضر. كما أنها الضامن لاستقرار الحدود مع دول الساحل، ما يقلل بشكل كبير من خطر التدفقات الهائلة للمهاجرين نحو جنوب أوروبا في الوقت الذي تستخدمه دول أخرى مثل المغرب وتركيا، ربما عن حق، كأداة ضغط دبلوماسية، كما نتعاون مع شركائنا في مواجهة الإرهاب والتهديدات الأخرى دون أن نجني أي منافع دبلوماسية تُذكر. إن هذا التجاذب مع أوروبا يكلفنا الكثير، رغم أن بلدنا يستوفي الشروط التي تؤهله للالتحاق بالركب العالمي، شريطة أن يكون لدينا الطموح لتحقيق شيء عظيم. يجب أن نفكر بجدية من أجل الأجيال القادمة - التي يجب أن تكون مهيأة بشكل أفضل للتعايش مع الزمن العالمي - في الابتعاد عن منطق الجغرافيا كأساس حصري للجيوستراتيجية واتخاذ قراراتنا وفق مصالحنا.
* وزير سابق، دبلوماسي