38serv
ما أظن أن هناك شكرا بعد شكر الباري سبحانه إلا شكر الوالدين، وقد جاءت نصوص الوحي حاثة على ذلك: {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}، كما ربط ربنا عبادته بالإحسان للوالدين: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا}.
وما أظن أن هناك عاقلا على وجه البسيطة مؤمنا كان أو كافرا لا يعي حق والديه تجاهه، فما دام أنه عاقل فهو لا شك يدرك ما بذله والداه حتى صار رجلا، قلِّب أيها الفاضل صفحات تاريخك لتجد كم قاست أمك من لأواء طيلة تسعة أشهر وما تلا ذلك من آلام المخاض، رجل من الصالحين طاف بأمه ثم لقي ابن عمر فقال: حملت أمي وحججت بها على ظهري، فهل ترى أني قد جازيتها؟ فقال له: كلا ولا بزفرة من زفراتها. ومن هنا امتدح ربنا أنبياءه لما كان لهم من اهتمام نحو الآباء، فهذا نبي الله نوح حكى عنه فقال: {رب اغفر لي ولوالدي}، وعن يحيى قال: {وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا}، وعن عيسى: {وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا}.
ورد في الصحيح أن عمر رضي الله عنه كان إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أُويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مُراد، ثم من قَرَن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: “يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مُراد، ثم من قَرَن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَار لو أقسم على الله لأبَرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي، فاستغفَر له”.
فأويس رضي الله عنه بلغ هذه المنزلة ببره بأمه، فكان للأم هذه المكانة الرفيعة، يأتي رجل يريد الهجرة فيقول: يا رسول الله جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبواي يبكيان، فيقول: “ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما”، ويأتي آخر يريد الجهاد فيسأله: هل من والديك أحد حي؟ فيقول: نعم، بل كلاهما، فيقول له: “ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما”.
إن من الأبناء للأسف من إذا تزوج نسي والديه، وإن منهم من يهش ويبش للرفقة والأصحاب، فإن كان بحضرة الأب أو الأم فتراه عبوسا قمطريرا، فإن تكلم فمن الخيشوم أو لا يريد أن يتكلم أصلا، حتى إن بعضهم ربما أقام وليمة فيحرم أباه، بل يستحي من حضوره عياذا بالله: “ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته يسكت”.
احذر أيها الحبيب أن يدعو عليك والداك إن أنت عققتهما، فهذا رجل من الصالحين كان قائما في صلاته فنادته أمه: يا جُريج فلم يجبها، وقال: يا رب أمي وصلاتي فيدع أمه وشأنها، ثم يقبل على الصلاة في ثلاثة أيام تناديه أمه وهو يقدم صلاته، فغضبت فدعت عليه: لا أماتك الله حتى تنظر في وجوه المومسات، فحصلت قصة لجريج اتُّهم فيها بالفاحشة وهو منها براء، فأراد الله أن يريه درسا، فأخذ إلى السجن فرأى بالمومسات فتذكر خطيئته.
وهذا رجل من كبار العلماء يقال له: حيوة بن شريح، كان مجلسه يغص بأرباب العمائم، ويقصدونه من كل مكان، فبينما هو في الدرس تأتي أمه على رؤوس هؤلاء الكبار فتقول: يا حيوة، فيقول: لبيك يا أماه، فتقول: اذهب فأطعم الدجاج، فيدع الطلاب ويخرج ليلبي طلب أمه، فكان بعض الطلاب يتضايق من هذه الأم العجوز التي تخرج هذه اللؤلؤة من هذه الحلقة، ومن هذه الروضة العظيمة والقلعة المنيفة، فيخرج من الدرس ليجيب أمه، فقال لهم مرة: إن تدريسي لكم نافلة وطاعتي لأمي واجبة. قال ابن عباس: كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل. والله ولي التوفيق.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي