38serv
يجد الكيان الصهيوني نفسه في "مأزق استراتيجي" على خلفية عدوانه على غزة، الذي يمتد لأكثر من 365 يوما، ويعدّ أطول مواجهات عسكرية يخوضها دون أن يحقق "انتصارا" حاسما، أمام مقاومة فلسطينية تدير المواجهة رغم عدم التكافؤ في موازين القوى، وحصار مطبّق على قطاع غزة وسياسة تجويع وحرب إبادة وتدمير ممنهجة يمارسها الكيان.
وقد برزت عدة دلالات ومؤشرات على طبيعة "المأزق الاستراتيجي" الذي يقع فيه الكيان الصهيوني، رغم الدعم الذي يلقاه من قبل الدول الغربية، على رأسها الولايات المتحدة، وهو دعم متعدّد الأبعاد سياسيا، عسكريا وماليا، سواء في قطاع غزة والضفة الغربية، أو على الجبهة اللبنانية.
وفيما يتم الترويج لخيارات "اليوم التالي" للحرب، غربيا ومن قبل الكيان، والتي تختزل الإيحاء بتحقيق الكيان لأهدافه المعلنة، ممثّلة في القضاء على المقاومة وتحييد قدراتها العسكرية، من خلال تنفيذ خطة تقوم على "أربعة أركان" للتعامل مع غزة بعد انتهاء الحرب، والتي تتضمن بداية القضاء على المقاومة وإبعاد حماس بالخصوص عن حكم قطاع غزة، موازاة مع سعي الكيان للسيطرة الأمنية الكاملة على القطاع، بما في ذلك تفتيش البضائع التي تدخل إلى المنطقة وتخرج منها مقابل تقسيم غزة لشطرين عبر محور "نتساريم" وكذا معبر رفح، وأخيرا محور صلاح الدين أو محور فيلادلفيا.
يقع محور فيلادلفيا على الأراضي الفلسطينية بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، على طول الحدود المصرية مع القطاع، ويمتد من البحر الأبيض المتوسط شمالا حتى معبر كرم أبو سالم جنوبا، حيث نقطة التقاء الحدود بين مصر وقطاع غزة والاحتلال الصهيوني، ويشكّل المحور شريطا عازلا بين مصر والقطاع، ويبلغ طوله نحو 14 كيلومترا وعرضه بضع مئات من الأمتار، وقد أنشئ عليه معبر رفح البري الذي يمثّل المنفذ الرئيسي لقطاع غزة على العالم الخارجي، وكل ذلك يراد أن يكون تحت الإشراف الصهيوني الغربي، فيما تتولى قوة متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة، تضم شركاء إقليميين وأوروبيين، مسؤولية إعادة إعمار قطاع غزة.
وفيما يتعمّد الكيان الإمعان في مواصلة عدوانه، ورغم درجة الدمار الذي لحقه في قطاع غزة وآلة القتل الوحشية غير المسبوقة، إلا أن سيرورة الحرب على غزة تقود إلى "مأزق استراتيجي" للاحتلال الصهيوني في المحصلة. فعامل الزمن لا يخدم الكيان الصهيوني، حيث أضحت تخوض أطول حرب عدوانية في تاريخها، مع مرور 365 يوما دون أن تنجح في تحقيق حسم ميداني، إذ أن طبيعة المواجهة التي تماثل "الحروب اللامتوازية" غير التقليدية، لا ترجّح نصرا صهيونيا، حتى ولو بدا عكس ذلك.
في نفس السياق، فإن التكلفة المتزايدة لأعباء الحرب على غزة وتوسيع رقعة الحرب إلى لبنان أيضا، رغم الدعم المالي والعسكري التي يحظى به الكيان، آخره الكشف في 26 سبتمبر 2024، عن حزمة مساعدات أمريكية جديدة بقيمة 8.7 مليارات دولار لدعم الكيان في عملياتها العسكرية الحالية. وكان الكونغرس الأمريكي أفرج أيضا في 14 ماي 2024 عن حزمة مساعدات بقيمة 26 مليار دولار للكيان. ومع ذلك، فإن أعباء الحروب العدوانية الصهيونية وتبعاتها على الداخل، يشكّل عاملا ضاغطا. ففي جانفي 2024 اعترف الكيان عبر صحيفة "يديعوت أحرونوت" أنه بعد مرور 3 أشهر على الحرب على غزة، فإن تكلفة الحرب على القطاع بلغت 60 مليار دولار دون أن تحقّق أيا من أهدافها المعلنة.
وفي منتصف جانفي دائما، صوّت أعضاء مجلس الوزراء الصهيوني المصغّر (الكابينت) على ميزانية 2024، بزيادة 55 مليار شيكل (15 مليار دولار) كمبلغ إضافي للإنفاق على الحرب، وشمل التمويل الإضافي، إلى جانب الميزانية العسكرية، تعويضات للمتأثرين بالحرب وزيادة في ميزانية الرعاية الصحية والشرطة، يضاف إلى ذلك الخسائر الاقتصادية، حيث عرف مستوى الإنتاج انهيارا بأكثر من 19.4 بالمائة خلال الثلاثي الأخير من 2023، وتواصل مع بداية 2024. ويواصل الاقتصاد الصهيوني خسائره، حيث تكشف تقديرات إحصائية، أن الخسائر الإجمالية الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للاحتلال في حربه التي يشنها على غزة، وصلت حوالي 165 مليار دولار، ناهيك عن الآثار التي مست قطاعات مثل الزراعة والسياحة.
وفي منتصف سبتمبر 2024، حذّرت تقارير من قلب الكيان، أن هذا الأخير على أبواب أزمة اقتصادية عميقة بسبب الإنفاق الحربي، وأن هذه الأزمة تقود إلى تضخم مالي وإلى تعميق العجز في خزينة الدولة.
وتوقّع تقرير صهيوني أن تقود هذه الأزمة إلى رفع الضرائب وإلى اقتطاع في الأجور ومخصصات الرفاه الاجتماعي، كاشفا أن الكيان أنفق إلى سبتمبر 2024 نحو 100 مليار دولار على حربه العدوانية. ولفت إلى ارتفاع مؤشر غلاء المعيشة في إسرائيل بنسبة تقارب 1% خلال الشهر الأخير، الأمر الذي من شأنه أن يدفع عشرات آلاف الصهاينة إلى ما تحت خط الفقر، في وقت توقّف فيه النمو في المرافق الاقتصادية، لا سيما قطاع التقنية العالية (الهايتك) الذي تراجع.
ونتيجة إفراغ قطاعات عديدة من العمالة، ليصبحوا جنود احتياط في جيش الاحتلال وعددهم يزيد على 300 ألف من الموظفين العاملين في مختلف القطاعات الحيوية، أهمها قطاع التكنولوجيا الذي يزوّد الكيان بنصف صادراته، وهذا القطاع لحقت به خسائر تفوق 25 مليار دولار، ناهيك عن تعطّل الاستثمارات الخارجية، مما تسبّب بخسائر كبيرة، وصلت تقديراتها الأولية أكثر من 25 مليار دولار، وهو ما يحتاج لوقت طويل للتعافي، فضلاً عن توقّف عجلة القطاع السياحي الذي تضرر، وهذا القطاع كان يدرّ قرابة إلى 20 إلى 25 مليار دولار على الخزينة الصهيونية سنوياً، يضاف إلى ذلك إيواء وتعويض العائلات المهجّرة نتيجة الحرب بغلاف غزة وأيضا بالجبهة الشمالية اللبنانية، وفي المناطق الحدودية مع لبنان، والذين يقدّر عددهم بمليون مستوطن يعيشون حالياً بالفنادق. وتراجعت صادرات قطاع التكنولوجيا في الكيان 7.8% خلال الربع الأخير من السنة الماضية 2023، مع إطلاق المقاومة الفلسطينية عملية طوفان الأقصى، وكذا في الربع الأول من 2024.
وارتفع معدل التضخم السنوي في الكيان إلى 3.6% في أوت 2024 من 3.2% في جويلية، وهو أعلى مستوى له منذ أكتوبر 2023. وانكمش الناتج المحلي الإجمالي للكيان بنسبة 4.1% في الأسابيع التي أعقبت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، واستمر الانحدار حتى عام 2024، حيث انخفض بنسبة 1.1% و1.4% إضافية في الربعين الأولين.
وعلى مستوى آخر، تبرز التكلفة العسكرية، إذ أنه رغم اعتماد الكيان للتعتيم ولسياسة فرض الرقابة العسكرية، فإن الخسائر البشرية التي لحقت بالكيان، غير مسبوقة من الناحية البشرية والمادية أيضا، فما يتم الإعلان عنه من الكيان جزء من الخسائر العسكرية الحقيقية والفعلية لعوامل عدة، منها توظيف المرتزقة والصهاينة من الدرجة الثانية "من غير الأشنكيناز وحتى السفارديم"، على غرار الدروز، فالكلفة التشغيلية لهذه الحرب تصل تقريبا 280 مليون دولار يومياً، أي ما يفوق 100 مليار دولار في 360 يوم من المعركة، فضلاً عن تكلفة الآليات العسكرية التي أعلنت المقاومة عن تدميرها، والتي تزيد على 1500 مدرّعة ودبابة وآلية، وهذه خسائر عسكرية لم يعلن الاحتلال عنها كلية.
وتبرز الخسائر التي مست أسلحة "نوعية" على غرار دبابة "الميركافا" من الجيل الرابع، التي فقد الصهاينة منها أكثر من ثلث الترسانة، علما أن قيمة الميركافا يفوق 6 ملايين دولار، يضاف إلى ذلك استنزاف الأنظمة الصاروخية "القبة الحديدية"، جراء الرشقات الصاروخية المتتالية سواء من غزة، أو حتى من الجبهة الشمالية وجبهات أخرى لاسيما "اليمن".
ويضاف إلى ذلك الخسائر البشرية، رغم تكتّم الاحتلال عن جزء كبير منها، حيث تخضع الإعلانات عن أي قتلى أو عمليات المقاومة إلى مقص الرقابة العسكرية أو منع من النشر، وهو قرار ملزم يتم بموجبه منع نشر أي معلومات عن القتلى، سواء من وسائل الإعلام أو من المؤسسات الرسمية أو من المستوطنين، ومع ذلك، فإن ثغرات كشفت عن حجم الخسائر التي تتكتم عليها الحكومة اليمينية لبنيامين نتنياهو، حيث أن عدد الجنود الجرحى يفوق 5 آلاف، من بينهم ألفان على الأقل أصبحوا في عداد المعاقين، بينما فاق عدد القتلى حسب معطيات متقاطعة 2000 قتيل، و ما يلاحظ أن خسائر جيش الاحتلال مست فرق نخبته على غرار "غولاني" و"ناحال"، وتتعمد الحكومة اليمينية إخفاء الخسائر في مسعى للحفاظ على معنويات الجنود على خط المواجهة من الانهيار وتخفيف وقع الصدمة على الجمهور داخل الكيان وعدم إثارة الرأي العام ضد القيادة السياسية والأمنية، وما يترتب عن ذلك من ضغط سياسي وشعبي لإنهاء الحرب، خاصة مع فتح جبهة لبنان.