38serv
يبرز العقيد المتقاعد بوحناش جمال، المتابع لشؤون لبنان والشرق الأوسط، أن سلم وأمن المنطقة سيبقى خاضعا للحسابات الإستراتيجية لواشنطن، مؤكدا أن عملية طوفان الأقصى قد أسقطت نظرية التفوق الإسرائيلي وشعاره "النصر السريع والحرب على أرض الغير". ويؤكد العسكري السابق في حوار مع "الخبر" أن قادة الاحتلال خسروا جميع الرهانات على أرض الواقع بسبب اصطدامهم بمقاومة محصنة بخطط وعقيدة وتجهيزات جديدة، ومحاطة بحاضنة اجتماعية مهمة.. ويلفت أيضا أن العداء التاريخي بين الجزائر والكيان جعله يبحث عن خاصرة رخوة، "المخزن المغربي"، لاستهداف الجزائر.
بعد نحو عام وشهر من عملية طوفان الأقصى، يتساءل الكثيرون عن سر صمود المقاومة وهل حققت أهدافها من العملية وما هو رأيك في تكتيكات جبهتي غزة ولبنان؟
سأبدأ الإجابة عن السؤال بتساؤل وهو هل سيعيد طوفان الأقصى وحرب إسرائيل على غزة ولبنان وصراعها مع إيران تشكيل الشرق الأوسط؟ وكيف لواشنطن تثبيت استقرار إقليم متحول تحت ضغط حق الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل التحرر وإقامة دولته؟ وسأحاول أن يكون محتوى هذا الحوار إجابة ضمنية عن هذا التساؤل.
عودة إلى السؤال: بالنظر إلى المدة التي استغرقتها الحرب (طوفان الأقصى) لمدة أزيد من سنة ومازالت، فإن هذا يدلل على أن نظرية بن غوريون التي أطلقها عام 1953 "النصر السريع والحرب على أرض الغير" المستوحاة من نظرية الحرب الخاطفة قد سقطت، وهي الشكل الذي ميز الحروب السابقة منذ حرب التأسيس عام 1948 والعدوان الثلاثي عام 1956 وحرب الأيام الستة جوان عام 1967 وحرب السادس من أكتوبر عام 1973، وهو (الشكل) الذي تميز بقصر مدة المعارك وعدم توسع رقعتها، وخوضها من قبل جيوش نظامية عربية في مواجهة جيش العدو الإسرائيلي المتفوق تكنولوجيا.
ليبدأ شكل المعركة في التغير ولم تعد التجربة نفسها منذ إجبار الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من جنوب لبنان في 25 ماي 2000 تحت ضربات المقاومة، وانسحابه الثاني من قطاع غزة في عهد حكومة شارون، وكل هذا تحت ضغط المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ليصل الأمر إلى محطة مفصلية فارقة وانعطافة حادة في سير النزاع المسلح ضد العدو، وهي حرب جويلية 2006، واضطراره إلى طلب وقف النار وتوسل ذلك بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية دون أن يحقق أيا من الأهداف التي أعلنها في بداية الحرب التي امتدت لأربعة وثلاثين يوما. مع الإشارة إلى معطى هام وتغير في بنية أطراف الصراع في جبهة جنوب لبنان، وهي أنه لم يعد هناك منذ الانسحاب الإسرائيلي في ماي 2000 ما يسمى الشريط الحدودي الذي كان يشغله جيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حداد، وبعده أنطوان لحد، ما مكن إسرائيل في عهده من تحقيق نصف النصر قبل بدء حروبها.
اليوم، الوضع مغاير تماما، ما يضطر العدو للعمل في بيئة معقدة (جبهة مجهزة ومحصنة) شرع في إنجازها "حزب الله" فور وقف إطلاق النار 2006، ونفس الشيء بالنسبة للمقاومة الإسلامية "حماس"، وامتد هذا العمل التحضيري لـ 18 سنة، أي إلى غاية بدء طوفان الأقصى.
سر صمود المقاومة وتكتيكاتها؟
أحد المبادئ العسكرية يقول الأرض تقاتل مع من يعرفها، على عكس بعض الأوصاف التي تطلقها جهات سياسية وإعلامية داخل لبنان وخارجه بأنه مجرد ميليشيا وفصيل إرهابي، مثله مثل حركة "حماس" وذراعها العسكري، فقد أثبتا في حقيقة الأمر أنهما مقاومة مسلحة لهما رؤى واضحة، وهي تحرير الأرض في غياب جيش يتولى هذه المهمة، وهذه المقاومة تتمتع بعقيدة قتالية وحاضنة اجتماعية مهمة.
تكتيكات المقاومة؟: نقطة تفوق مقاتلي "حزب الله" و"حماس" هي تكتيك الالتحام والمواجهة على الأرض، هذا النوع من القتال الذي يحرم العدو من الإفادة من عناصر تفوقه الجوي والناري والتكنولوجي.
وبذلك يمكن إيجاز تكتيكات المقاومة على الخصوص في جنوب لبنان فيما يلي:
بالإفادة من تجهيزات وتحصينات المواقع والأرض فإن قواته تعمل وفقا للأسلوب القتالي التالي:
قوات تدافع عن مناطق حاكمة مرتفعات وتلال مسيطرة على المسالك والممرات متشابكة النيران. وقوات تدافع ضمن القرى والبلدات باستغلال البنايات المدمرة والحطام والركام الذي يعتبر مقبرة الجيوش النظامية.
إضافة إلى قوة الرضوان المتحركة التي تقاتل متنقلة بمجموعات صغيرة وتعمل على المعالجة الفورية لأي خرق في الخط الدفاعي تمكن منه العدو ومنعه من تطويره في العمق.
اعتماد البقع الدفاعية المنفصلة التي تعتمد على الأنساق الدفاعية المتحركة، ما يزيد من مرونة الدفاع، وهو استخلاص للدروس من قبل "حزب الله" في الماضي حين كان يقاتل على طريقة الجيوش النظامية بدفاع ثابت.
وعلى وجه الخصوص، فإن الأسباب المباشرة التي مكنت المقاومين في جنوب لبنان من الصمود:
تجهيز الدفاع بشكل جيد منذ 18 سنة، وإقامة شبكة من الأنفاق والخنادق، ما جعله يصمد أمام ضربات الطيران. وامتلاكه لسلاح مضاد للدروع موجه، حديث وبعيد المدى. وتمرس مقاتليه وتمتعهم بمهارات قتالية عالية.
كيف تحلل تطورات الوضع في جبهة جنوب لبنان ومستقبل المقاومة بعد استشهاد قياداتها العليا؟
منذ قرابة الشهر قرر نتنياهو الهروب من حرب إلى حرب بنقل الجهد الرئيسي إلى جنوب لبنان، ومنذ ذلك اليوم والجبهة مشتعلة ولم يتمكن العدو الإسرائيلي من تحقيق أي اختراق على طول الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، وفي نفس المدة، في حرب تموز 2006، قبل 18 سنة، تمكن من التوغل آنذاك حولي 12 كلم قبل أن توقف توغله قوات المقاومة وتجبره على التراجع، بعد مجزرة الدبابات التي تعرضت لها وحداته المدرعة في واد الحجير ووقف إطلاق النار إثر ذلك، هذا ميدانيا.
سياسيا، فإن إسرائيل نقلت الجهد الرئيسي للحرب إلى الجبهة اللبنانية في محاولة لفصل الجبهتين اللبنانية والغزية الفلسطينية، وبعد تعثر فرقه القتالية بدأت القيادة السياسية في التراجع عن كثير من الأهداف التي أعلنت عنها سابقا، وتعمل على الدفع بـ"حزب الله" شمالي الليطاني بعدما كانت تعمل على نزع سلاحه وتفكيكه وتدميره.
بعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران، أطلقت تصريحات مفاجئة من القيادة العسكرية الإسرائيلية حول إمكانية إيقاف الحرب بعد أسبوع أو أسبوعين، وهذا بسبب ثبات المقاومة على الخط الأمامي للجبهة، وصولا إلى فكرة الذهاب إلى التسوية وفقا للقرار 1701 الأممي، وهذا الأمر سببه الضغط العسكري الميداني الذي مارسه "حزب الله" على إسرائيل، وعجزها عن إعادة المستوطنين إلى مستوطنات الشمال، وظهور نبرة جديدة في التصريحات الإسرائيلية على لسان وزير الدفاع غالنت، وهي أن تحقيق الأهداف ليس بالضغط العسكري وحده، ما تسبب في انقسامات داخل القيادة الإسرائيلية ودعوة لمراجعة أهداف الحرب عموما.
شيطنة المقاومة داخليا
كان للضربات التي تلقتها المقاومة في بداية الحرب وتصفية عدد كبير من هرمها القيادي في "حزب الله" و"حماس" أثر معنوي بالأساس للأسف، وما كان ليكون ذلك لولا الاختراق البشري الذي يعاني منه "حزب الله" داخليا على وجه الخصوص، والعداء الذي تكنه لها جهات لبنانية وتصوره بأنه كيان إيراني، ولو نسمع لخطاب هؤلاء لوجدنا أن إسرائيل أرحم بـ"حزب الله" منهم. لكن حسن تنظيم المقاومة وصدق قوة دعمها المجتمعي مكنها من تجاوز فترة عصيبة واستعادة توازنها، ونتائج الميدان هذه الأيام تدلل على ذلك.
إن معضلة "حزب الله" والمقاومة عموما هي ليست مع العدو الإسرائيلي، فمقاتلوها وبتكوينهم القتالي قادرون ومصممون على المواجهة، إن معضلته هي مع جزء من الداخل اللبناني مع أبناء بلده.
برأيك ما هو مستقبل المقاومة ميدانيا ومستقبلا ؟
إسرائيل تمارس القتل والتدمير وكل الأعمال التي تدفع بمن بقي من اللبنانيين والفلسطينيين على قيد الحياة إلى النزوح، وخلق واقع اجتماعي لا يمكن تحمله. قد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية في الداخل اللبناني لا قدر الله.
وإسرائيل مدعومة بالولايات المتحدة الأمريكية بهذه الأعمال تعمل على إخراج "حزب الله" وحركة "حماس" من المشهد الاجتماعي والسياسي اللبناني والفلسطيني على حد سواء لدى شعبيهما وفي بلديهما.
كيف تقرأ وتحلل حجم وتوقيت الضربة الإسرائيلية على إيران قبل نحو أسبوعين ؟
أولا، العملية لم تمكن من إعادة بناء الردع، بل بالكاد ردع ناقص، ونستطيع أن نقول إن هذه الضربة متناسبة مع الإمكانيات العسكرية لإسرائيل دون مشاركة ودعم أمريكي.
ولا أعتقد أن الضربة مكنت إسرائيل من استعادة الردع. والقيادة الإسرائيلية بعقلها الإستراتيجي، ستكتفي بهذا في انتظار تبدل الوجوه في الإدارة الأمريكية بعد الانتخابات الأمريكية.
ما الذي حققته إسرائيل من الضربة؟
لو نظرنا إلى الأهداف المضروبة فهي دون التصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء "نتنياهو" ووزير دفاعه لعدة مرات بالنبرة الحادة التي دفعت إلى الاعتقاد بأنها ستزيل إيران من الوجود.
وفي رأيي فإن الضربة اختبار لمنظومة الدفاعات الجوية الإيرانية تحسبا لعمل في المستقبل. ثم ما الذي ينهي دورة الانتقام والرد والرد المضاد، لا شيء في الأفق، وأن هذه الضربة لا تثني إيران عن الرد مستقبلا، ولذلك ستستمر حالة الترقب.
ما هي انعكاسات الوضع في فلسطين على الجزائر أمنيا واستراتيجيا؟
لا أعتقد أن هناك انعكاسات مباشرة للوضع في فلسطين المحتلة على الجزائر، فالجزائر منذ نيل استقلالها اعتمدت خيار واستراتيجية دعم حركات التحرر في العالم، وتعتبر قضية فلسطين أم القضايا في العالم التي تلتزم الجزائر أخلاقيا بدعمها بكل الأشكال في المحافل الدولية وماليا ولوجستيا.
ما هي تأثيرات المعركة الآن ومستقبل التطبيع؟
لو نظرنا إلى عملية طوفان الأقصى من حيث التوقيت، فهي أتت في مرحلة كاد فيها قطار التطبيع أن يصل إلى محطته النهائية بانضمام دول مهمة إلى العملية ودفن القضية الفلسطينية، لكن والحمد لله أن هذه الملحمة التي تخوضها المقاومة في لبنان وفلسطين أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمامات في المحافل الدولية، وأظهرت الحاجة إلى حل عادل للقضية الفلسطينية.
هل هناك مؤشرات على توسع الصراع في دول الطوق الفلسطيني؟
إن توسع الصراع مشروط ومحكوم بتهديد الأمن القومي لدول المنطقة، واضطرارها طوعا أو كرها للانخراط في الحرب، لكن لحد الساعة لا أعتقد، لأن الشروط متوفرة لتوسع رقعة الحرب كون أغلب دول المنطقة تحكم سيطرتها على الأوضاع.
ما هي خيارات الجزائر للتصدي لأي مخططات من العدو التقليدي وحليفه المجاور لنا مستقبلا؟
في الواقع، الحساب بين الثورة الجزائرية ودولة الجزائر المستقلة من جهة، ودولة الكيان الصهيوني من جهة أخرى، ظل مفتوحا لعقود للأسباب التالية:
موقف الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال والجالية اليهودية المناهض لثورة التحرير الجزائرية ومحاربة داعميها منذ انطلاقتها في 1954، ليظل الحساب مفتوحا إلى ما بعد الاستقلال، ومواقف جزائر الثورة من إسرائيل إثر حرب الأيام الستة في جوان 1967 والدعم العلني والصريح الجزائري للدول العربية وقطع الجزائر لعلاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بعد اعتداء جوان 1967 باعتبارها الداعم الرئيسي للعدوان، وما كان لإسرائيل أن تنجز ما أنجزت لولا هذا الدعم.
لتأتي بعدها حادثة اختطاف طائرة العال الإسرائيلية من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 24 تموز يوليو 1968 وإنزالها في مطار الدار البيضاء في العاصمة، وثبات الجزائر على موقفها الداعم للمطالب الفلسطينية المتعلقة بتحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال مقابل إخلاء سبيل ركاب الطائرة من اليهود الصهاينة، ومكوث الطائرة لأكثر من شهر، ثم مغادرتها لمطار الجزائر بطاقم غير إسرائيلي تنفيذا للشروط الجزائرية.
دون نسيان الدور الرائد للجزائر في إشهار سلاح النفط في وجه الدول الغربية الداعمة لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973 وما انجر عن ذلك.
واحتضان الجزائر في نوفمبر 1988 لمؤتمر إعلان الدولة الفلسطينية هنا في الجزائر.
كل هذا الإرث التاريخي دفع بالكيان إلى البحث الحثيث عن خاصرة رخوة للدولة الجزائرية على أمل إلحاق الأذى بها، وللأسف لقي تجاوبا لدى النظام المخزني المغربي الذي يقاسمه الأطماع التوسعية، ووصل إلى الحد الذي جعل من أرضه ومؤسساته قاعدة لإطلاق تهديدات إسرائيل بحق الدولة الجزائرية التي تملك رصيدا وخزانا بشريا وعناصر متعددة تمكنها من التصدي لمناورات الجار.
وهنا يمكن القول إن إسرائيل هي من يخوض المعارك بدعم أمريكي متعدد الأشكال، ولكن من يدير اللعبة على مستوى أوسع هي الولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا فطبيعة العلاقات الجزائرية مع واشنطن - ومصالح هذه الأخيرة - كفيلة برسم ماذا سيحدث.
كيف تعلق على الاستعراض العسكري الذي نظمه الجيش بمناسبة الاحتفال بالذكرى السبعين لثورة نوفمبر ؟
لا يفوتني أن أنوه بالمشهد الاحتفالي الرائع (الاستعراض العسكري) بمناسبة الذكرى السبعين لاندلاع حرب التحرير المباركة، والذي حمل رسائل متعددة تؤكد على المستوى الاحترافي الذي بلغته القوات المسلحة الجزائرية بكامل قواتها وفروعها، من خلال التحكم في التقنيات العالية، وهي الورقة الأساسية الضرورية لبناء القدرات العسكرية للدولة، وللتحضير القتالي لحروب المستقبل وخوضها بالكفاءة المطلوبة.