38serv
لقد اختلفت تعبيرات الأصوليين قديما وحديثا حول هذه المرتبة، فهناك من يسمّيها بحفظ النسب، وهناك من يسمّيها بحفظ النسل. والذي تجدر الإشارة إليه هنا أن التعبير بأحد اللفظين يغني عن الآخر، ويحمل المدلول نفسه.
والمقصود بالمحافظة على النسل صورة بقاء وجود النوع الإنساني، وهذا مقتضى فطرته، وحافز نشاطه، حتى يندفع إلى العمل ولا ينقطع فيه الأمل، وهو ضمان لاستمرار هذا النوع في الأجيال المتعاقبة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ويتم هذا الحفظ كما يأتي:
حفظه من جانب الوجود
يحصل هذا بانتساب النسل إلى أصله، وذلك عند الالتزام بقواعد الأنكحة التي وضعها الشرع الكريم، كما تتم المحافظة عليه بالسعي في حمايته بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد مادية وأدبية، ابتداء بمن له عليه سلطة فعلية مباشرة (وهما الأبوان) وانتهاء بولي الأمر الملزم بتحقيق المصالح العامة التي يعدّ النسل فردا من أفرادها، فتحصل له الحماية من جهة إقامتها، وبناء على هذا، قرّر الفقهاء “أن الولاية في النكاح للعصبة دون ذوي الأرحام، ومن يدلي بجهة الأم؛ لأن الولاية شرعت لحفظ النسب، فلا تكون إلا لمن له سبب ومدخل فيه حتى تحصل المصلحة، وهي الدوام على المحافظة؛ إذ هو مصلحة نفس الولي، فلذلك يكون أبلغ اجتهادا وأتمه في تحصيل الأكفاء ودفع العار عن النسب”.
ويطرح الإمام ابن عاشور اعتراضا افتراضيا، فيقول: “فقد يقال إن عدّه من الضروريات غير واضح؛ إذ ليس بالأمة من ضرورة إلى معرفة أن زيدا هو ابن عمرو، وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم”. ويرى الإمام ابن عاشور أن هذا الطرح لو اتبع، لأدى إلى مضرة عظيمة يحصرها في ثلاث نواحٍ: أ- إن الشك في انتساب النسل إلى أصله يزيل من الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذبّ عنه، والقيام عليه بما فيه بقاؤه وصلاحه وكمال جسده وعقله. ب- يؤدي إلى انقطاع التربية وارتفاع الإنفاق عن الأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الاستغناء عن العناية، وهي مضرة لا تبلغ مبلغ الضرورة؛ لأن في قيام الأمهات بالأطفال كفاية ما لتحصيل المقصود من النسل. د- يزيل من الفرع الإحساس بالمبرة والصلة والمعاونة والحفظ عند العجز.
ثم يلاحظ ابن عاشور بعد ذلك: “أن النظر إلى النسل من خلال تفكيك جوانبه يكون من قبيل الحاجي، ولا ينتهض أن يكون ضروريا، وهذا غير صائب في نظره؛ لأن الصواب عنده أن ينظر إلى هذه الجوانب مجتمعة بصفة كلية، وملاحظة الأضرار التي تترتب عليها عند اختلالها في نفس الهيئة، فإنك ستجد، كما وجد علماؤنا، أن حفظه أجدر بأن يكون في مرتبة الضروري، لأنه لما كانت لفوات حفظه من مجموع هذه الجوانب عواقب كثيرة سيئة يضطرب لها أمر نظام الأمة، وتنخرم بها دعامة العائلة، اعتبر علماؤنا حفظ النسب في الضروري”.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر