38serv
عند أبي داود وغيره من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت النار فبكت، فقال صلّى الله عليه وسلم: “ما يبكيك”؟ قالت: ذكرت النار، ثم سألته: هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال: “أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا؛ عند الميزان، حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم”.
إنه مشهد رهيب من مشاهد يوم الدين، مشهد يتخلى فيه القريب عن قريبه، والحبيب عن حبيبه؛ والزوج عن صاحبته، والأخ عن أخيه: {یوم یفرّ المرء من أخیه وأمه وأبیه وصاحبته وبنیه}، مشهد يظهر فيه كتاب قد دوّنت فيها جميع أعمال العبد: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}.
هذا الكتاب لا يعتريه الخطأ ولا النسيان، ولا ظلم فيه ولا محاباة، لأنه من تدوين ملائكة أطهار بررة، وليس من تدوين البشر: {وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون}، كتاب جمعت فيه كل أعمال العبد من يوم بلغ مرحلة التكليف إلى أن مات: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}، كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}، كتاب الحسنة فيه بعشر أمثالها: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، وفي الصحيح: “إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة”.
والناس عند تطاير الصحف ينقسمون إلى فريقين: آخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، والدواوين عند الله ثلاثة؛ ديوان لا يغفره الله لمن مات عليه، وهو الشرك بالله، فهو الذنب الذي لا يغفر والكسر الذي لا يجبر: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما}، بل إنه يحبط ما في الصحائف من أعمال: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك}.
وديوان لا يبالي الله به، فإن شاء غفر وإن شاء عذب، وهو كل ذنب دون الشرك، فإن تاب منه قبل موته فإن الله يتوب عليه ويغفره له، بل ويبدله حسنات: { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات}، ومن كرم الله أن هيأ للعباد المذنبين أسبابا للمغفرة. وديوان لا يترك الله منه شيئا، وهو المتعلق بحقوق العباد: “من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيبا من أراك”.
ومن ذلك المماطلة في الديون: “من مات وعليه درهم أو دينار قضي من حسناته”، ومنها الغيبة والنميمة والقذف: “أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار”. ولذلك، حثّ المعصوم بالتحلّل من المظالم قبل الموت: “من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم”.. والله الموفق.
* إمام مسجد عمر بن الخطاب
- بن غازي - براقي