38serv
عن أنس رضي الله عنه أن النبِي صلّى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: “إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر”. نلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل أصحاب الأعذار الحقيقية كالمستطيعين المزاولين للعمل أجرا وقدرا، ومصداق هذا الحديث قول الله جل شأنه: {لا يستوِي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضررِ والمجاهدون في سبيل الله..} فإنه سبحانه استثنى أولي الضرر -وهم المعذرون- وجعلهم كالمجاهدين؛ وهذا من عدل الله وحكمته، ومن فضله ورحمته.
هذا أمر لا يختلف فيه العقلاء؛ أن صاحب العذر لا تثريب عليه ولا لوم يتوجه إليه، بيد أن الداء الذي ابتلينا به هو التقصير مع اختلاق الأعذار، ومن أهم مظاهر هذا الداء: الشعار الذي رفعه كثير منا، وهو كلمة حق يراد بها باطل ويبرر بها الفشل: الله غالب...!
فالله عز شأنه يقول: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، إذ الله تعالى عزيز يغلِب ولا يُغلَب، في كل الأزمان، وفي كل الأماكن، وفي كل الأحوال، ومع كل الناس. وسواء أدّيت عملك كما يجب، وحققت النتيجة التي ترغب فيها أم قصّرت وخسرت؛ فالله غالب على أمره سبحانه؛ فلا داعي -بل لا يجوز- تبرير التقصير والفشل بمثل هذا القول الصادق تحريفا للكَلِم عن مواضعه!.
لقد ذكر الله لنا صورتين في سورة براءة متقابلتين متناقضتين، الصورة الأولى للمنافقين الذين تخاذلوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فذكر من أوصافهم: {فرِح المُخلّفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون}، هذا عذرهم الّذي صرحوا به، وليس بعذر كما هو ظاهر، ولما رجع النبي صلّى الله عليه وسلم من غزوته تفننوا في اختلاق الأعذار واختراعها، فقال عنهم الله تبارك وتعالى: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} إذن التكثّر من الأعذار من صفات المنافقين وسلوكاتهم التي يجب على المؤمن أن يتنزه عنها، وهذا ما تؤكده الصورة الثانية التي ذكرها الله لنا عبرة وعظة كمقابل لصورة المنافقين، فقال جلّ جلاله: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لِلّه ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}، فهؤلاء الصحابة الكرام من أهل العذر وحالهم ظاهر، وقد عذرهم الله وعذرهم رسوله؛ ومع هذا تفيض أعينهم دمعا حزنا على عدم المشاركة في العمل، وأي عمل؟!، جهاد قد يكون فيه استشهادهم ومع ذلك يحرصون إلى آخر لحظة، ولما يئسوا بكوا وحزنوا...
فلننظر أين نحن من هؤلاء؟!، ولننظر أين روحنا من تلك الأرواح الطاهرة والأنفس الصادقة؟!.
لا شك بعد ذلك أن الواجب علينا هو الاقتداء بهؤلاء الصفوة، وبهذه الروح المتفانية، وبهذا الحرص الكبير على المشاركة في الخير. والابتعاد كل البعد عن نفسية المعذرين، الذين يخترعون الأعذار الواهية، ويبررون كل تقصير بالحجج الداحضة. فالصبر على العراقيل وتحدي الصعوبات وإنجاز العمل مهما صعبت الظروف خير من ألف عذر يساق!!.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة