38serv

+ -

يقول الباري سبحانه: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}، ويقول: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}.

تالله إن الناظر في أحوالنا يجد الغفلة قد تحكمت في القلوب، حتى أصبحت لا تتعظ بسماع آية تتلى أو حديث يروى، نقرأ الوحي ولكن لا تدمع العينان، ونسمع أحاديث المعصوم فتصك آذاننا تذكرنا بالآخرة وتخوّفنا بالنار، وتحبّبنا في الجنة، ولكن القلوب لا تخشع ولا تخضع ولا تلين، انتشرت المعاصي والآثام، فلم يبق لهذا القلب خوف، ولا للعين دمعة.

 تأمل رعاك الله إلى الفضل العظيم الذي أعدّه الله سبحانه لصاحب العين التي تدمع خشية من ربها: “لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع”، ويقول: “عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله”. وعد النبي صلّى الله عليه وسلم الرجل الذي يبكي من خشية الله من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: “ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه”، فاضت بالدموع رهبة وخشية.

ما قست القلوب إلا بتراكم المعاصي والآثام، فأصبح القلب لا يجد مساغا لوعظ ولا لنصيحة: “إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}، فكيف لقلب هذا حاله أن يبكي من خشية ربه؟ وكيف لقلب سودته المعاصي والآثام أن يتفكر في خَلْق مولاه؟

نبينا الكريم كان يبكي إذا تلا آيات ربه أو تُليت عليه، فقد قال يوما لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “اقرأ عليّ القرآن”، فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: “إني أحب أن أسمعه من غيري”، فأخذ عبد الله يقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}، فقال له صلّى الله عليه وسلم: “حسبك”، يقول ابن مسعود: فنظرت إلى النبي فإذا عيناه تذرفان تبكيان تأثرا بالقرآن. وروي أن أمنا عائشة رضي الله عنها سئلت عن أعجب ما رأته من رسول الله، فبكت ثم قالت: كان كل أمره عجبا، أتاني في ليلتي التي يكون فيها عندي، فاضطجع بجنبي حتى مس جلدي جلده، ثم قال: “يا عائشة: ألا تأذنين لي أن أتعبّد ربي؟” فقلت: يا رسول الله، والله إني لأحب قربك، وأحب هواك، أي: أود ألا تفارقني، قالت: فقام إلى قِرْبة من ماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي ويتهجد، فبكى في صلاته حتى بلّ لحيتَه، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يُؤْذِنُه بصلاة الفجر رآه يبكي، فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال له: “ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة هذه الآيات: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}.

وأما عن خشية وبكاء الصحب الكرام والسلف عموما، فذاك ما لا يسعه المقام، ولنكتف بنُتف مما كان عليه حال القوم، فهذا معاذ رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة بكى، فقالوا: ما يبكيك وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟! فقال: والله ما أبكي جزعا من الموت أن حلّ بي، ولا لدنيا تركتها بعدي، هما القبضتان: قبضة في الجنة، وقبضة في النار، ولا أدري في أي القبضتين أكون: {فريق في الجنة وفريق في السعير}. وبكى الحسن رضي الله عنه فسئل عن ذلك، فقال: أخاف أن يطرحني غدا في النار ولا يبالي. وقام عمرو بن عتبة يصلي، فقرأ حتى بلغ: {وأنذرهم يوم الآزفة} فبكى حتى انقطع، ثم قعد. وعن القاسم بن معن أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله تعالى: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ}، فبكى حتى الفجر. وقال شيخ الوعاظ ابن الجوزي: قرأت الحديث على الحافظ أبي البركات الأنماطي فكان يبكي، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته.

*إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي