38serv

+ -

 إن القرآن العظيم هو كتاب الهداية الكاملة الشاملة الخالدة: {إِنَّ هَذا ٱلقُرءَانَ يَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ}، فهو لم يغفل أي جانب من جوانب الحياة البشرية، بل أرسى في كل جانب منها معالم الاهتداء التي تأخذ بيد البشرية الضعيفة إلى الصراط المستقيم، والقصص القرآني هو منجم لا ينضب من العبر والحكم والتوجيهات والمعالم التي تفهم من خلالها النفس البشرية في انفرادها واجتماعها، وما ذكر فيها من أقوام وأفراد إنما هي نماذج تتكرر في تاريخ الإنسانية، تختلف في أزمانها ومظاهرها ولكنها تتفق في جوهرها وطبيعتها، حتى تبقى عبرة وعظة للناس: {لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَة لِّأُوْلِي الأَلبَابِ}.

فحين نجد القرآن الحكيم يكرر قصة بني إسرائيل عدة مرات في سور مختلفات، فهذا يدعونا لدراسة هذا النموذج من الأقوام البشرية فهو نموذج متكرر في كل زمان، أي أنه يعيش معنا. وكذلك حين نجد القرآن الحكيم يكرر قصة فرعون في سور عدة من طوال السور وقصارها، فهذا يدعونا للوقوف معه طويلا ودراسته بعمق، فهو نموذج متكرر في كل زمان وهو يعيش معنا. ولا يخفى على أحد أن فرعون صار رمزا للاستبداد والاستكبار والاستعمار، وصارت الفرعونية مصطلحا يعبر عن ذلك كله، وقد صرح القرآن العظيم أن فرعون جعله الله عبرة للمعتبرين، وآية لأمثاله من المستبدين والمستكبرين والمستعمرين، قال الحق سبحانه: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الأخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَة لِّمَن يَخشَىٰ}، وقال: {فَاليَوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَن خَلفَكَ ءَايَة وَإِنَّ كَثِيرا مِّنَ النَّاسِ عَن ءَايَاتِنَا لَغَٰفِلُونَ}، ومن غفلة أكثرية الناس انخداعهم بالفراعنة المتجددين، وعدّهم زعماء رغبا حتى إذا تمكنوا أذاقوهم الويلات وسوء العذاب فخضعوا لهم عقودا رهبا.

إن الفرعونية ظاهرة متجددة لم يخل منها زمان، وفي زماننا هذا وقبله بعقود بل بقرون تسلط على شعوب الأرض، وفي مقدمتها شعوبنا العربية والإسلامية فراعنة من المستعمرين والمستبدين ولا يزالون، أذاقوا ويذيقون الأبرياء ألوانا فظيعة من العذاب الهون، ولكنهم مكرمون موقرون، يتولون أعلى المناصب في دولهم، وتخضع لهم الشعوب رضًى أو كرها، وما هم إلا حُثالة من المعقدين نفسيا أو مختلين عقليا. وإني لأجزم أنه لا يوجد -ولن يوجد أبدا-كتاب اهتم بفضح الفرعونية، ووصف نفسية الفرعون كالقرآن العظيم، وهذا موضوع كبير يحتاج إلى دراسات جادة ستسمح للبشرية بفهم أعمق وأدق لظاهرة الفرعونية بما يسمح لها بتبين مناهج الوقاية منها ومحاربتها، فأول العمل الصحيح، هو فهم صحيح.

وقد حاولت رسم صورة مختصرة بحسب ما يسمح به المقام لشخصية الفرعون وسلوكه من خلال الآيات القرآنية، ألخصها في الإلمعات:
- جنون العظمة: إذ رغم أن من نعرف من المستبدين والمستعمرين محدودي الذكاء، في حين إجرامهم لا حدود له، إلا أنهم نماذج مقيتة لجنون العظمة، وهي عقدة نقص غالبة عليهم، تصل بهم إلى ادعاء الألوهية قولا أو حالا، فكل فرعون يعتقد نفسه إلها وإن لم يصرح: {وَقَالَ فِرعَونُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَاعَلِمتُ لَكُم مِّن إِلهٍ غَيرِي}، {فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعلَى}، ولكن فرعون الأصلي كان مغرورا بملكه، {وَنَادَى فِرعَونُ فِي قَومِه قَالَ يا قَومِ اَلَيسَ لِي مُلكُ مِصرَ وَهَذِهِ الأَنهَارُ تَجرِي مِن تَحتِي أَفَلَا تُبصِرُونَ}، فتجرأ وصرّح، وفراعنة هذا الزمان خبراء في النفاق؛ لذا يرون في أنفسهم (الألوهية)، ولا يصرحون حتى لا تستفيق الدهماء.

- الإفساد والإجرام في إسراف واستكبار: قال الله تعالى في وصفه: {إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعا يَستَضعِفُ طَائِفَة مِّنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَستَحيِ نِسَاءَهُم إِنَّهُۥكَانَ مِنَ المُفسِدِينَ}، {ثُمَّ بَعَثنَا مِن بَعدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إلى فِرعَونَ وَمَلَإِيْهِ بِـآيَاتِنَا فَاستَكبَرُوا وَكَانُوا قَوما مُّجرِمِينَ}، {وَإِنَّ فِرعَونَ لَعَال فِي الأَرضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلمُسرِفِينَ}.

- السفاهة والضلال المبين: {وَلَقَد أَرسَلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلطَٰان مُّبِينٍ إلى فِرعَونَ وَمَلَإِيْهِ فَٱتَّبَعُواْ أَمرَ فِرعَونَ وَمَا أَمرُ فِرعَونَ بِرَشِيد}، وتاريخ البشر يؤكد أن كل المستبدين وكل المستعمرين كانوا من السفاهة بمكان؛ ولذلك اتخذوا مواقف وانتهجوا سياسات يحار فيها العقل، وهي غالبا ما تؤدي إلى انهيارهم، وهذا من حمقهم، فالأحمق يفعل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه!.

- لا ينفع معه المعارضة السلمية أو المقاومة السلمية: {ٱذهَبَا إلى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَولا لَّيِّنا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخشَى}، إن التوجيه الرباني للرسولين واضح وصريح بضرورة اللين والرفق [والسلمية] في دعوة فرعون، ولكن فرعون الذي لا شرعية له إلا القوة والبطش يستحيل أن يتوب أو يخضع للخطاب السلمي، ولو كان رسالة سماوية تنصرها معجزات عظيمة على يد رسول عظيم!، ولم يكن غريبا أن يكون موقف فرعون: {فَتَوَلَّى فِرعَونُ فَجَمَعَ كَيدَهُ ثُمَّ أَتَى}، ولكن هناك الكثير من الناس من لا يزال يتوهم أن الفراعين سيستمعون لأصواتهم المسالمة، وهيهات هيهات.

- احتقار الخصوم من معارضين ومقاومين: {فَأَرسَلَ فِرعَونُ فِي ٱلمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرذِمَة قَلِيلُونَ وَإِنَّهُم لَنَا لَغَائِظُونَ}، {وَلَقَد أَرسَلنَا مُوسَى بِـآيَاتِنَا إلى فِرعَونَ وَمَلَإِيْه فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنهَا يَضحَكُونَ}، فالمعارضون أو المقاومون هم شرذمة ومواقفهم ملهاة تدعو للضحك منهم، وطبعا ذنبهم الوحيد أنهم أغضبوا السيد الفرعون!.

- انتهاج سياسة فرّق تسد: {إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي ٱلأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعا يَستَضعِفُ طَائِفَة مِّنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَستَحي نِسَاءَهُم إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلمُفسِدِينَ}، وهذه سياسة لا يخفى على أحد كم اعتمدها المستبدون والمستعمرون؟

- التّظاهر بالخوف على مصالح الناس وعمل أي شيء في سبيل ذلك:{وَقَالَ فِرعَونُ ذَرُونِي أَقتُل مُوسَى وَليَدعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي ٱلأَرضِ ٱلفَسَادَ}، ففرعون الحريص على من تحت يده لا يفكر في قتل موسى إلا مصلحتهم، خوفا على دينهم من التبديل ودنياهم من الفساد!، وهكذا يدعي كل المستبدين والمستعمرين في حق معارضيهم ومقاوميهم.
- النظرة المتعالية على البشر وعدهم قُصْرا يحتاجونإلى من يتولى أمورهم ويرعى مصالحهم: {قَالَ فِرعَونُ مَا أُرِيكُم إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهدِيكُم إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ}، وعليهم أن يروا ما يرى، ويسلكوا سبيله الذي هو سبيل الهداية ويا ويح من حاول أن يفكر!، وإنّ الصّلف ليصل بالفرعون إلى أن يحرّم على الناس أن يقتنعوا بشيء دون إذن منه!:{قَالَ فِرعَونُ ءَامَنتُم بِه قَبلَ أَن ءَاذَنَ لَكُم إِنَّ هَذَا لَمَكر مَّكَرتُمُوهُ فِي ٱلمَدِينَةِ لِتُخرِجُواْ مِنهَا أَهلَهَا فَسَوفَ تَعلَمُونَ}.

- الإفراط في الغرور وعدم الاتعاظ بالأحداث مهما عظمت العبرة: وذلك من خذلان الله تعالى لهم، حتى يأخذهم العذاب بغتة،{وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرعَونَ سُوءُ عَمَلِه وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا كَيدُ فِرعَونَ إِلَّا فِي تَبَاب}، وإلا كيف نفهم موقف فرعون حين انشق البحر أمامه، ولم يفكر في عظمة الأمر، ولم يرجع لنفسه ويخضع للمعجزة؟!، وكذلك أصحابه من الفراعين في كل زمان يعلمون نهايات أمثالهم، وبعضها قريب منهم، ولكنهم لا يعتبرون ولا يتعظون، حتى يصيبهم مثل ما أصابهم بعض انهيار عروشهم ودولهم، وأنّى لهم أن يذكروا:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلمِرصَادِ}!.

 إن موضوع الفرعونية في ضوء القرآن العظيم موضوع هام وكبير يحتاج مزيد دراسة وتوضيح، وبث ونشر لمعانيه في عموم الناس، حتى تكون (تلقيحا وتطعيما) لهم تحصنهم من الخضوع للمتفرعنين، بل تحمي المجتمعات والشعوب من صناعة فراعينهم، وعشقهم!!.

*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة