38serv

+ -

 سجلت مسيرة نصرة الرسول الكريم، الجمعة، وعيا جليا إزاء “قضية”، بغض النظر عن اختلاف المواقف بشأنها، وسجلت أيضا واقعا مريرا عبرت عنه انحرافات عن القضية المنتصر لها، وتمثلت في أعمال تخريب لافتة، في ظاهرة بحاجة إلى تسليط ضوء حول خلفياتها ومسبباتها ومن المسؤول عنها؟مسيرة الجمعة لم تكن نتاج دعوة حزبية، أو منظماتية، بل كانت نتاج وخز جماعي، تردد إزاء ضرورة تسجيل رد فعل ضد الإساءة للرسول الكريم، حتى وإن كانت هناك دعوات “خفية” للمصلين بالمساجد للالتحاق بالشارع. وبغض النظر عن مسيرة الجمعة، فإن كل المسيرات التي انتظمت بالعاصمة، بعد قانون الحظر الذي أقر عام 2001، بعد أحداث القبائل، بالإضافة إلى أنها قوبلت بالمنع وأحيانا القمع، فإن أغلبها لم يكن لينجح، حتى وإن سمحت السلطة بها، وذلك لغياب التأطير الحزبي، والمنظماتي، وخاصية التأطير والتنظيم أزيحت من أجندة الأحزاب السياسية الموصوفة “فاعلة” اعتبارا من تجربتها في تأطير المسيرات منذ بدء التعددية السياسية. والسبب في اضمحلال هذه الخاصية، قانون منع المسيرات بحد ذاته، وهذا القانون لم يمنع الأحزاب من تأطير المسيرات فحسب، ولكنه أثناها حتى عن الدعوة إليها، حتى وإن تعلق الأمر بنصرة الرسول الكريم، كما لوحظ بالنسبة لمسيرة الجمعة.مقابل هذه الخاصية، وجد للجزائريين خاصية أخرى، تتعلق بدوافع خروجهم إلى الشارع بالعاصمة، وهي دوافع غلب عليها الطابع العقائدي، فقبل مسيرة نصرة النبي الكريم، سبق للجزائريين أن خرجوا في مسيرات عفوية بالعاصمة من أجل نصرة غزة، لما تعرضت للعدوان البغيض من دولة الكيان الصهيوني. ولما يتعلق الأمر بالدفاع العقائدي، أظهرت التجربة أن الجزائريين لا ينتظرون دعوة حزبية حتى ينتصروا لمعتقدهم، تماما مثلما لا يعيرون حسابا لمواجهات مع قوات قمع الشغب، وقد لا يخرجون في مسيرات دعت إليها أحزاب، لدوافع سياسية حتى وإن سمح بالسير بالعاصمة، فقبل ثلاث سنوات درج “الأرسيدي” على تنظيم مسيرات سبتية، وعلى تكرارها، فإنها أبقت على نفس الوجوه بساحة أول ماي. وتبين مسيرة الجمعة الفرق بين المسيرة المؤطرة والمسيرة غير المؤطرة، على خلفية أعمال التخريب التي رافقت جحافل المتظاهرين، فما حدث من تكسير لواجهات المحلات وإلحاق أضرار مادية بممتلكات عامة وخاصة، هو نتاج لانسحاب التنظيم الحزبي، وهذا الانسحاب أيضا نتاج لغلق سياسي عمر سنوات عديدة، ومازال مستمرا تحت طائل درء انزلاقات محتملة أو تفويت الفرصة على اعتداءات إرهابية محتملة، حتى وإن كانت حالة الطوارئ قد رفعت قبل أكثر من عامين (فيفري 2012)، والمفارقة تكمن في خوض السلطة إصلاحات سياسية، منذ أفريل 2011، فرخت أكثر من 30 حزبا جديدا، إضافة إلى الأحزاب القائمة، لكن، دون توفير ميكانيزمات التفاعل مع المواطنين في القضايا الأكثر حساسية، وعلى نحو يضمن سلمية التظاهر، وتسمية الجهة الداعية للتظاهر، بما يجعلها مسؤولة عن أي انزلاقات تحصل من تلك التي تتخوف منها السلطة، بينما والواقع على هذا الحال، لا يمكن تحميل أي جهة المسؤولية عندما تفتقد المسيرات للتنظيم، وهو ما حصل بمسيرة الجمعة، بتسجيلها انحرافات غير متبوعة بتحديد المسؤول عنها، سوى ما تعلق بالمسؤولية السياسية التي تتحملها السلطة برفضها فتح الباب أمام حق تنظيم المسيرات بالعاصمة، حتى وإن تبادر للوهلة الأولى أن ما سجل من تخريب وأعمال شغب، بمثابة حجة تقيمها السلطة للتشديد أكثر في موقفها الرافض للمسيرات بعاصمة البلاد.على هذا النحو، يطرح الواقع السياسي تساؤلا بشأن الوصفة السياسية الكفيلة باستعادة ثقة شعب ضاعت لسنوات، في غياهب غلق سياسي وإعلامي، تفطنت له السلطة متأخرة، ومضطرة، فراحت تعلن إصلاحات، انخرط فيها “القاصي والداني” و”الغث والسمين” و”الكفء والرديء”، فأنتجت مشهدا عكسيا، كان وليد التعود على الغلق السياسي والإعلامي، انعزل فيه الجزائريون إلى زاوية، يعزف فيها، هو الآخر، سنفوينته الخاصة، بينما وجدت الأحزاب نفسها تؤدي “مونولوجا” أشبه بمونولوج “خباط كراعو”.ومثلما أغلقت السلطة المجال السياسي والإعلامي، أنتجت كذلك برلمانا مطعم بـ”أمية سياسية”، وبدت رغبة السلطة في غلق المجال السياسي جلية، وعبر عن ذلك وزير العدل السابق، الطيب بلعيز، من منبر المجلس الشعبي الوطني بالقول إن الأحزاب السياسية “فشلت في تأطير الشباب الذي يفضل الموت في عرض البحر بدل البقاء في بلده”. لكن، دلالات ما حصل في مظاهرات نصرة الرسول الكريم، من انزلاقات، تتجلى أيضا، اجتماعيا، في ضوء استغلال شباب حالة الغليان، من أجل ارتكاب أفعال هابطة. وعلى مدار الأعوام الماضية، دلت الاحتجاجات على حالة من “اختناق” اجتماعي، لم يجد فيه المواطن متنفسا له، في ظل “استقالة” المجتمع المدني، وغياب التأطير الاجتماعي الهادف إلى المطالبة بالحقوق بالطريقة السلمية بعيدا عن العنف. وتبعا لذلك، اضمحلت القنوات الحقيقية التي يفترض أن تشكل الواسطة بين المواطن والسلطة، تبلغ انشغالاته ورسائله لها، سلميا. وأصبحت المسافة الفاصلة بين المواطن والسلطة معدومة، تماما، ومفتوحة على مواجهة مباشرة، ساحتها الشارع وأداتها الماء الساخن والغاز المسيل للدموع.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: