+ -

 لم يعد حال وسط البلد بالعاصمة مثلما كان. تغير حاله مثلما تغير في كثير من البلاد العربية. فقد سمعت الروائي المصري علاء الأسواني يتحدث عن تحولات وسط البلد في القاهرة، وما صاحبه من تأثيرات على الحياة الثقافية بعد زوال البرجوازية القديمة بفعل ثورة يوليو 1952، فوجدت أن ما حدث عندنا هو نفسه ما حدث في مصر. ومن عرف حال وسط البلد عندنا قديما منذ ثلاثين سنة، يدرك حجم التغيير الذي حصل به. وهو تغيير عميق على مستوى التركيبة الاجتماعية. فوسط البلد كانت تقطنه عائلات برجوازية عريقة انتقلت من الحي العتيق القصبة إلى شقق المعمرين عقب الاستقلال. وكانت تتردد على المسرح في بور سعيد وقاعات السينما المنتشرة في كل مكان. لكنها سرعان ما انتقلت مرة أخرى إلى أحياء جديدة في أعالي العاصمة، فتركت وسط البلد بأحيائه التاريخية ومرافقه الثقافية كدور السينما ودار الأوبرا أو المسرح الوطني،والمكتبات التي كانت تعج بها شوارع المدينة. وتم هذا الانتقال إلى الأحياء الجديدة بأعالي العاصمة بحلقة مفقودة في الحياة الحضرية العصرية وهي حلقة الثقافة، فالأحياء الجديدة التي عمرها هؤلاء لا يوجد بها قاعات سينما ولا أوبرا ولا مكتبات، ومن ثم أصبحت هذه البرجوازية تعيش حياة باهتة خالية من الثقافة. وفي المحصلة أصبح لدينا أحياء راقية دون ثقافة، وبرجوازية لا تجد أماكن ثقافية. بينما فقد وسط البلد الذي بقي فيه المسرح ودور السينما الفئة الاجتماعية التي كان من المفروض أن تهتم بالثقافة.وبالنظر في حال الأحياء الراقية الجديدة في أعالي العاصمة، ندرك حجم الانفصال القائم بين البرجوازية والثقافة، وكم أصبح بارزا ذلك الخلل الحاصل على مستوى الثقافة عندنا، إذ نجد أحياء تعيش روح العصر وتتنفس الحداثة، ونعثر فيها على كل مميزات المجتمع الاستهلاكي. نجد فيها المحلات التجارية التي تبيع الماركات العالمية، كما نجد المطاعم الفاخرة ونمط الحياة الغربية. ولا نصادف، ونحن نسير على أرصفتها الضيقة، سوى رجالا ونساء وشبابا من ذوي المستوى المعيشي الرفيع. ويوجد كل شيء في تلك الأحياء. كل ما تجود به ثقافة الاستهلاك. أما الشيء الوحيد الغائب فهو مظاهر الثقافة، فلا يوجد مكتبات ولا قاعات سينما ولا دور أوبرا. لا يوجد أدنى مظهر من مظاهر الثقافة، رغم أن الفئة الاجتماعية التي تستهلك الثقافة (مثلما هو الحال في الحواضر العالمية) تتردد على تلك الأحياء صباح مساء، ولا تعطي لنفسها عناء النزول إلى وسط البلد، لأن وسط البلد فقد رونقه، ولم يعد في مستوى التحولات الحاصلة على مستوى الاستهلاك. بمعنى لم يعد في مستوى البرجوازية الجديدة بعد أن كان شارع بن مهيدي وجهة “شارع لالير” فيما سبق من الشوارع التي تفي بحاجيات البرجوازية القديمة. تغير الوضع تغيرا جذرا، ولم يعد يوجد سوى الأحياء الجديدة بأعالي المدينة لتلبية رغبة البورجوازية الجديدة، من حيث الاستهلاك والتمتع بالتسوق (الشوبينغ)، والظهور أمام الملأ بأفخر الملابس، والتعطر بأغلى العطور، والسير بالسيارات الفخمة. وهكذا لا تختلف بورجوازية العاصمة عن بورجوازية نيويورك أو باريس إلا من حيث علاقتها بالثقافة. تعيش على وقع نفس المظاهر لكنها تعرف اختلافا جوهريا. ففي الشونزيليزيه يستهلك المرء كل مظاهر ثقافة اقتصاد السوق، لكنه يعرج في نفس الوقت على قاعات السينما ودور الأوبيرا، وبينه وبين الحي اللاتيني أين تنتشر مظاهر الثقافة لا يوجد سوى بضعة شوارع على نهر “السين”. لذلك أعتقد أنه حان الوقت لكي يكون للأحياء الراقية الجديدة مسارحها ومكتباتها وقاعاتها السينمائية، حتى تصبح الحياة العصرية عندنا مرادفة لما كانت عليه سابقا، وتعيش على وقع الاستهلاك الثقافي. فمكان الثقافة لم يعد وسط البلد. وسط البلد أصبح مجرد تاريخ يروى وذكريات ماضية.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: