+ -

 أدعي أنني قرأت روايات كثيرة من الشرق ومن الغرب على حد سواء. لم أترك بلدا إلا وقمت بدق بابه عبر الأدب، فما من مسافر جيد إلا من يقرأ ويغوص في عالم الروايات ويتعمق في التجارب الإنسانية. قرأت أدب الشرق والغرب، فوجدت أن عالم الرواية ليس متجانسا، متشابها، بل هو مختلف ومتعدد. وحسبي أن الرواية تتفرع إلى فرعين أساسيين، هما رواية الحكاية، ورواية الميتا - حكاية. فالحكاية هنا قاسم مشترك بين النوعين، أما ما يفرق بينهما فهو نزوع رواية الحكاية نحو التركيز على الفن، ورسم معادلات موضوعية، والتركيز على وصف العالم الخارجي ونفسية الشخصيات، مثل روايات غراهام غرين وجون لوكاريه. بينما تنزع الرواية الميتا - حكاية نحو الفلسفة بدل الفن، فنجدها تبتعد عن تفاصيل الحياة الخارجية، وتغرق في سراديب الفكر والميثولوجيا، والاعترافات، لتظهر على شكل رواية فلسفية مثل تلك التي كتبها هيرمان هيسه وكولون ويلسون. كما بإمكان الكاتب الروائي أن يقف بين رواية الحكاية، والرواية الميتا - حكاية، مثلما فعل جان بول سارتر، الفيلسوف الفنان، كما يصفه بيرنار هنري ليفي في كتابه الشهير (عصر سارتر). وسارتر كما يقول عنه هنري ليفي هو ”ستاندالي” (روائي) و”سبينوزي” (نسبة إلى سبينوزا) في آن واحد. وهناك تجارب كثيرة تشبه تجربة سارتر، أشهرها تجربة ألبير كامي، الفنان الفيلسوف بامتياز. وفي السنوات الأخيرة ظهرت تجارب مماثلة في أمريكا، على غرار تجربتي بول أوستير وكورماك مكارثي. بينما اختار دوغلاس كينيدي طريقا مغايرة، وكتب الرواية الحكاية. والملاحظ هنا، أن الرواية الحكاية تجد لها صدى واسعا لدى جمهور القراء، بينما تحظى الرواية الميتا - حكاية بالاهتمام النقدي. فالنقاد أصحاب مرجعيات فكرية ومنهجية جاهزة، على شكل توجيهات وأفكار مسبقة. ميولهم واضحة، ولا يقتربون سوى من الرواية الميتا - حكاية قراءة ونقدا، لكونها تستجيب لتعقيدات المناهج النقدية التي ترتكز على بنية الرواية وشكلها، بدل التركيز على مضمونها. فالقارئ العادي يتسلى بالقراءة، بينما الناقد يفكك ويعيد البناء وكتابة النص من جديد. لهذا ينفر من الرواية الحكاية، نفورا شديدا، كأنه لا يجد فيها ضالته. لكن الغريب أن هذه الظاهرة التي شرحتها للتو، لا تنتشر سوى في العالم العربي. النقد العربي مهوس بالبنية والشكل. يهتم بالتعقيد والغموض، وليس بالحكاية. فأن تعطي أي رواية لدوغلاس كينيدي مثلا الصادرة بعنوان ”خمسة أيام”، لأي ناقد عربي، فإنه يجدها تافهة، لأنها رواية عادية جدا على مستوى الشكل والبنية، وهي عبارة عن حكاية حول ميلاد عاطفة الحب، وكيف يحب البشر. وطرح كينيدي في روايته السؤال التالي: ”لماذا يُكمل الناس حياتهم ويتصرّفون عكس ما يرغبون ويراودهم دائماً الشعور بالفشل؟”. لا يوجد في هذه الرواية التي أُدرجها ضمن رواية ”الوضعية البشرية” و”الفوضى المرعبة”، أي تعقيدات شكلية. إنها حكاية طويلة، مليئة بتفاصيل الحياة التي قلما يلتقطها الروائي العربي الذي ينجرف نحو الشكل والبنية والتعقيد، سعيا وراء إرضاء الناقد.  أعتقد أن النقد العربي تحول إلى سلطة أكاديمية مرعبة تتحكم فيها قواعد جاهزة، وضعت الرواية في قوالب معينة. وأنا من الذين يعتقدون أن المسألة النقدية لا تتعلق بالمسألة الأكاديمية، بل تتعلق بالذوق والخبرة بالحياة وتفاصيلها. والنقد قراءة واعية، متحررة من الدوغمائيات الأكاديمية، وهو انغماس في الحياة، وليس تحكما في المنهج الأدبي. وعليه ليس كل من درس النقد الأدبي ناقدا، وليس كل من انساق وراء التعقيد روائيا. فالروائي كائن متحرر يؤمن بالحياة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: