38serv
منذ 1983 م في 15 مارس من كلّ عام، يُحتفل باليوم العالمي لحماية المستهلك، وموضوع حماية المستهلك لم يَعُد من السّهولة الّتي يمكن أن يتصوّرها عموم النّاس، حيث لم تعد التّشريعات الخاصة بمواصفات المواد الغذائية والأوزان والمكاييل كافية لتوفير الحماية اللازمة للمستهلك. إنّ البحوث والمقالات والنّدوات وبعض الجهود الإعلامية لتوعية المستهلك قاصرة عن تلبية المتطلّبات الأساسية لحقوق المستهلك في ظلّ اقتصاد السوق والمنافسة، حيث إنّ قوانين العولمة واتفاقيات منظمات التجارة العالمية، وما يترتّب عليها من فتح الحدود ورفع الحواجز الجمركية والجبائية والتّجارة الإلكترونية، والتّغيير الكبير في وسائل وأساليب الاستيراد والتّصدير، والاهتمام المتزايد بالجودة والنّوعية للمنتجات والخدمات الّتي تقدّم للمستهلك، وكذلك التّطوّر الهائل والسّريع في المجالات الاقتصادية والتّجارية والصّناعية في معظم دول العالم ومنها دولنا العربية والإسلامية، كلّ ذلك يضع عِبئًا كبيرًا على الجهات الحكومية وغير الحكومية المهتمة بحماية المستهلك، ما يتطلّب تضافر الجهود المتنوعة للاستفادة من بعض الجوانب الإيجابية لهذه التّطورات والمتغيّرات، وللتّصدي للظّواهر السّلبية الّتي أفرزتها هذه المتغيّرات. ولابدّ من إعادة النّظر في القوانين والتّشريعات الاقتصادية ذات الصّلة بحماية المستهلك وإحداث نقلة نوعية في أساليب وطرق توفير المعلومات والتّوعية المتّبعة حاليًا، حيث تتناسب مع تحديات المستقبل والّتي تبدو أنّها سوف تكون تحديات كبيرة.حماية المستهلك هدف ينبغي الحرص عليه وتأمينه، والعمل بشكل دؤوب وكبير، وبشتى الصور لتحقيقه، عن طريق إصدار القوانين والتّشريعات اللازمة لهذه الحماية، وعن طريق إنجاز الأبحاث والدراسات الشّرعية والقانونية والاجتماعية، حتّى نشيع المناخ الّذي يجعل المستهلك قادرًا على تمييز ما هو في صالحه من حيث الحصول على المعلومة الصّحيحة والعيش في أمان وسلامة والاختيار الطّوعي للسلع والخدمات بالسعر العادل الّذي يدفعه مقابلها والكمية الّتي تؤمّن احتياجاته بشكل مناسب مع ضمان الجودة، حيث يمارس حقّه في العيش والعمل في بيئة خالية من الغشّ والتّضليل تضرّه في ماله وصحّته.وإذا كان المشرّع الوضعي الغربي لم يضع حماية للمستهلك في قوانينه الوضعية إلاّ بعد العام 1945م، فإنّ صياغة حقوق المستهلك في الإسلام تمّت في عصر تكوين الرّسالة في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. لذا، فإنّ تخلّف أكثر النُّظم الإسلامية المعاصرة في مجال تأصيل حقوق المستهلك وتطبيقات حمايته لا يمثّل الاهتمام الحقيقي للفكر الإسلامي.لقد حدّد الإسلام الحقوق الّتي يتمتّع بها الفرد في الدولة الإسلامية تحديدًا واضحًا، إذ وجدت أسسها في القرآن والسُّنَّة، ثمّ تولّى الفقهاء بيانها وتحديد نظامها. فهناك حقّ الله تعالى، وهناك حقّ العبد، وقيل: الحقّ ينقسم إلى حقّ عام وحقّ خاص، ومثّلوا لما سبق: بحقّ الإيمان، وحقّ القذف، وحقّ القصاص، وحقّ الملكية، وحقّ الشُّفعة وحقّ الخيار.وتبرز من هذه التّقسيمات عناية الفكر الإسلامي بحقوق الفرد، ومن ضمنها حقوقه المتعلقة باستهلاكه، خاصة أنّ الفكر الإسلامي قد أفرد للمستهلك ضمن ما يسمّيه الفقهاء (حقوق العباد) حقوقًا تندرج ضمن الحقوق العينية المالية.ومدلول مصطلح “المستهلك” يتّسِع ليطلق على مَن يحصل على متطلّباته الأساسية أو الكمالية لسدّ حاجاته الشّخصية والأسرية. ذلك لأنّ عملية الاستهلاك تنصبّ على التّناول الإنساني المباشر للسّلع والخدمات لإشباع رغبات الإنسان وحاجاته، ولذا اعتبر الاقتصاديون الاستهلاك الهدف النهائي من النشاط الاقتصادي.كما أنّ مصطلح “حماية المستهلك” لم يستعمله فقهاؤنا الأوائل، ذلك لأنّ الحماية إنّما تطلق على من يحتاج إليها من القاصر أو العاجز أو الضعيف. والمفترض في الإنسان المستهلك القائم على تحصيل مواد الاستهلاك، أن يكون كامل الأهلية بالغًا عاقلًا قادرًا على تمييز ما ينفعه ممّا يضرّه، فهو على حال لا يصحّ أن يطلق لفظ الحماية عليه.والمشكلة اليوم أنّ التجار ومحترفي جمع المال أصبحت لهم طرق كثيرة يستطيعون من خلالها الكسب والرّبح الوفير، فيحتالون بها على المستهلك الّذي أصبح ضعيفًا كالرّيشة الّتي تلعب بها الرّياح، حيث تذهب بها الإعلانات المغرية والدّعايات الكاذبة حيث تشاء.ومستهلك اليوم ليس كالمستهلك في الزّمن الأوّل، حيث الأمانة والصِّدق وعدم الخيانة والكذب، حيث الرّضا بالرّبح القليل وخاصة إذا كان من طريق مشروع، وإجادة الصُّنعة ومراقبة الله في ذلك. كما أنّ الاستهلاك في الإسلام ليس مجرد استهداف لإشباع الغرائز وسدّ الحاجات الإنسانية، إنّه عبادة من العبادات وطاعة من الطّاعات وقُربة من القُرب، وهو تعوّد فطري حياتي، وهو وسيلة مؤدّية إلى رضا الله سبحانه، شرط الإخلاص والنّية الصّالحة وتحري الكسب الحلال واستهلاك الطيّبات والتّقوى على عبادة الله ثمّ العمل المثمر لصالح المجتمع المسلم. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} البقرة:172، وقد قيل إنّ النية في الاستهلاك تحوّله من عادة ومطلب غريزي إلى عبادة يثاب عليها الإنسان.وحماية المستهلك ورعايته والاهتمام بحقوقه أصبحت من أهم الواجبات الأساسية للدولة المعاصرة بمختلف أجهزتها المعنية. ونشير إلى أنّ المقصود بحماية المستهلك هو حفظه من جشع التجار واستغلالهم لـه في طلب رغباته واحتياجاته، فهو عرضة للغشّ والخداع والتّدليس والنّصب والاحتيال.وتسعى الدول المعاصرة إلى حماية المستهلك من النّاحية القانونية والإدارية والقضائية والعلمية والاجتماعية، فمن الناحية القانونية، تكون بسنّ التّشريعات والقوانين المنظمة لرعايته وحفظه، ويكون ذلك من واجبات السّلطة التّشريعية. ومن الناحية الإدارية، بمراقبة السلع والمواد الغذائية ومراقبة الجودة وتأمين احترام اللّوائح والقوانين في هذا المجال من المنتجين والتجار ويكون ذلك واجبًا من واجبات السّلطات التّنفيذية في الدولة. ومن الناحية القضائية، بأنّ توقّع السّلطة القضائية العقوبات الرّادعة على المخالفين والمستغلّين لجهل المستهلكين، حماية لهم، ويكون ذلك واجبًا من واجبات السّلطة القضائية. ومن الناحية الاجتماعية والعلمية، بالتّأكّد من المنافسة الشّريفة وصحّة الدّعاية والإعلان ومكافحة الحِيَل والأساليب الملتوية في غشّ المستهلك.*كلية الدراسات الإسلامية/ قطر
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات