+ -

يتساءل الفيلسوف ”أوليفي رازاك ” في مؤلفه الموسوم  ”التاريخ السياسي للأسلاك الشائكة” الصادر في 1999  وأعيد طبعه أكثر من مرة، عن سر الاستمرار في استخدام الأسلاك الشائكة في مختلف بلدان العالم في ظل اللجوء الواسع للأقمار الصناعية لرصد كل ما يدبّ فوق سطح الأرض وما يكمن في باطنها من ثروات طبيعية، وانتشار الاستخدام الشامل لتعيين مواقع الأشخاص وكل شيء متحرك مربوط بمنظومة اتصالية Gps، والاستعانة المتزايدة بكاميرات المراقبة الموصولة بشبكة الاتصالات، وتزايد الاعتماد على البطاقة البيومترية  للتثبّت من هوية الأشخاص؟يذكرنا هذا الفيلسوف بأن المزارع الأمريكي جوزيف غليدن هو أول من اخترع الأسلاك الشائكة  لتسييج أرضه الزراعية في 1874،  حيث لم يقم سوى بتزويد الأسلاك العادية المعروفة بعقد مشوكة. وقد استحوذ الجيش الأمريكي على هذا الاختراع فعمم استخدامه في العديد من البلدان. ففرنسا، على سبيل المثال، أنشأت خط ماجينو من الأسلاك الشائكة خلال الفترة الممتدة من 1828 إلى 1940 لتحصين حدودها مع دول الجوار: ألمانيا، بلجيكا، وسويسرا وايطاليا. وقامت المجر بإنجاز ستار مماثل للحد من أي تسلل من وإلى النمسا. فكان هذا فاتحة الحديث عن الستار الحديدي بين الدول الشرقية والدول الغربية. وكُثف استخدامه في الحرب العالمية الأولى لحماية المتاريس.  وقام الجيش الفرنسي بمدّ خط من الأسلاك الشائكة على طول شريط من الألغام، سمي خط شال، نسبة إلى أحد جنرالاته في 1959 لمنع إمداد الثورة الجزائرية بالسلاح من تونس. يمكن للبعض أن يستنتج بسرعة بأن الأسلاك الشائكة تشكل امتدادا تاريخيا للجدران والأسوار التي كانت تفصل الشعوب منذ 4000 سنة خلت. فكلمة Murus ” ”، أي جدار في اللغة اللاتينية تعني الحاجز الذي يحمي سكان المدينة من الهجمات والفوضى الخارجية، ويفصل الطيبين عن الأشرار. وقد ارتبطت الأسوار بالسلطة المركزية. واندثارها يعني  انهيار الامبراطوريات، كما هو شأن الإمبراطورية الرومانية. لذا يمكن تفسير استمرار هذه الأسلاك  في الوجود طيلة 140 سنة بكلفتها الرخيصة، وسرعة تنصيبها على طول يزيد عن الآلاف كلم مقارنة ببناء جدران الحجر والاسمنت المسلح. هذا إضافة إلى مرونة استخدامها لتلبية مختلف الحاجيات، إذ نراها منتشرة  في المدن والقرى في جل بلدان العالم،  سواء  لترسيم حدود المراعى أو حماية الممتلكات الخاصة  أو إبعاد البشر والحيوانات عن حقول الألغام،  أو تحصين المصانع التي تنتج مواد خطيرة  ومحطات الطاقة النووية، أو تعزيز جدران السجون والمعتقلات والثكنات.إن هذا الاستنتاج ينزاح عن الإجابة عن السؤال المطروح الذي يوحي بأنه من المفروض أن  تدخل الأسلاك الشائكة المتاحف لأن التكنولوجية الحديثة تجاوزتها، وأحسن مثال على ذلك هو انتشار رادارات  الإنذار المبكر، ولجوء رعاة البقر إلى متابعة قطعانهم عبر الأقمار الصناعية. ناهيك عن القول أن منطق هذه الأسلاك لا يتناغم مع خطاب العولمة الذي يروم الانفتاح وإلغاء الحدود أمام تدفق السلع وانتقال البشر. ليس هذا فحسب، بل إن الاستنتاج المذكور يتجنّب التطرق إلى البعد الرمزي للأسلاك الشائكة . فوظائف الحماية، والعزل والتَحَصُّنٌ والمنع التي تقوم بها هذه الأسلاك لا تستطيع إخفاء طابعها العدواني والعنيف خلافا للأعمدة الخشبية التي كانت تقوم بالوظائف ذاتها. وهذا ما حدا بالفيلسوف المذكور إلى التأكيد على أن ما ينطبق على الحيوان أصبح يُعمم على الإنسان! فهذه الأسلاك تختزن قيمة تستر التمييز والتراتيبية والإقصاء. فالتاريخ يعلمنا بأن قيام المستعمر الغربي بتسييج مراعي سكان أمريكا الأصليين أدى إلى هجرتهم وفناء ثقافتهم.    ليت المربين والمثقفين والساسة اهتموا أكثر بالصور النمطية  Sterotypes التي تمارس ما هو أخطر من الأسلاك الشائكة في الفكر.  فهذه الصور تعرف بأنها بُنَى ذهنية مستقرة ومتواترة في وسائل الإعلام والإشهار والثقافات الشعبية  تُمكّن الشخص أو الأشخاص من الحكم على الغير القادمين من ثقافة مختلفة ببعض الصفات والأحكام التي تنتهي إلى إنتاج نماذج فكرية ذات طابع عنصري وتمييزي. وحتى وإن كانت هذه الصور النمطية ترفع من شأن البعض، فإنها تحقق بعضا مما ترومه الأسلاك الشائكة من وظائف  حماية الذات وإراحتها وطمأنتها، وتسييج البعض وعزلهم وحتى جرحهم. وتَؤُول، في آخر المطاف، إلى اختزال التفكر وتبسيط الظواهر والسلوك والمواقف إلى درجة شل التفكير فيها.يرى البعض أن الصور النمطية هي دلالة عن الجهل، ويراها البعض الآخر ضريبة التنوع الثقافي في العالم وفي بعض الدول. لكن مهما اختلفت النظرة إلى هذه الصورة،  فقد أدركت بعض الدول خطورتها وحاولت أن تعلم أطفالها كيف يرصدونها في وسائل الإعلام والإشهار ويتخلصون منها في عالم يزعم بمباهاة أن شبكة الانترنت جعلت البشر يلتقون ويتعارفون إلى بعضهم دون حواجز ولا أسلاك شائكة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: