38serv

+ -

إن الهيئة الناخبة مدعوة يوم الخميس 17 أبريل 2014، إلى الانتخاب لرئاسة الجمهورية؛ انتخاب سيختار الشعب السيد من خلاله رئيس الجمهورية القادم الذي سيفوضه التصرف باسمه لفترة خمس سنوات. ومن المعروف أن الانتخاب الرئاسي قد شكّل دوما لحظة قوية في حياة الأمة وحدثا أساسيا بالنسبة للمصير الوطني. وهنا، فإن الأمر يعتبر شرفا عظيما بقدر ما يعد مهمة ثقيلة ودقيقة، سواء من الناحية المعنوية أم من الناحية البدنية بالنسبة لكل من يتطلع إلى الارتقاء إلى منصب القاضي الأول في البلاد. غير أن هذه المهمة لكي يتم أداؤها أداء مشرّفا، تتطلب أن تحاط بجملة من الشروط، ومنها خصوصا تلك التي يمليها الدستور رسميا، من جهة، وتلك التي تفرضها قواعد الأخلاق البروتوكولية المرتبطة بممارسة الوظيفة من جهة أخرى. وإنه لفي ظل مثل هذه الاستشارة الانتخابية الهامة، والشروط الموضوعية للشفافية والحرية التي يجب أن تطبع سيرها، لأمكن تقدير مدى التأصل الاجتماعي للدولة ولأمكن أن يفتك التقدير المستحق في محفل الأمم. ولذلك، فإن الانضمام التساهمي للمواطنين في القرارات الوطنية الكبرى، من شأنه أن يضفي على مؤسسات الجمهورية مصدرا للشرعية ذا قيمة ثمينة، ويشكّل من هذا المنطلق الحصانة الأوثق التي يمكن للجزائر أن تعتمد عليها لرفع التحديات الكبرى للتشييد والتصدي للرهانات التي تتهددها. وبصفتي رئيسا سابقا للجمهورية، فقد امتنعت إلى حدّ الآن، عن الخوض المكثف في الحقل السياسي انطلاقا من واجب التحفّظ، مثلما امتنعت عن التدخل في الفضاء المؤسساتي بحكم أدبيات الجمهورية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف التحفّظي لم يمنعني أبدا من أن أتحسس نبضات المجتمع الجزائري، كما لم يمنعني من أن أتابع عن كثب وباهتمام خاص تطور المستجدات الوطنية. غير أن ظهور سلسلة من الأحداث والتصريحات التي كانت متعددة، بقدر ما هي غير معهودة، ولاسيما عشية استحقاق انتخابي بالغ الأهمية، قد جعلني من باب الواجب الأخلاقي ملزما بالتعبير عن وجهات نظري وتقاسم مشاعري ومخاوفي مع المواطنين الجزائريين. إن ما يجري اليوم على الساحة الوطنية لا يمكن أن يترك المرء غير مبال، بل إنه يستوقف وعي كل مواطن جزائري غيور على استقلال بلاده ويقدر حق التقدير ضريبة التضحيات الباهظة التي بذلت في سبيل استعادة هذا الاستقلال. كما يجب التذكير بأن الجزائر بالأمس القريب ولنفس هذه الغاية، قد دفعت من جديد ثمنا باهظا بعد أن عاشت مرحلة من أدق مراحل تاريخها المعاصر، واستطاعت أن تتخلص منها بأعجوبة بفضل الله تعالى ثم بفضل كل القوى الحية للأمة التي تجنّدت إلى جانبها بكل شجاعة وكرامة مثالية. واليوم، فإن واجب الذاكرة، ينبغي أن يشكّل أكثر من أي وقت مضى، مصدرا لا ينضب، بحيث يجب أن يلهم الشعب الجزائري حتما في سعيه الوطني إلى تعبيد طريق المستقبل. وهنا، أود، باسم واجب الذاكرة هذا، أن أشيد من جديد بكل هذه القوى الحية للأمة وأن أنوّه بالدور البارز الذي أدته، ولاسيما ذلك الدور الذي اضطلع به الجيش الوطني الشعبي وقوات الأمن في حلحلة المأساة الوطنية الخطيرة التي عاشتها الجزائر. فبالرغم مما واجهته الجزائر من عداء شديد في كفاحها ضد الإرهاب، فقد عرف الجيش الوطني الشعبي واستطاع بمعية قوات الأمن أن يحبط كل محاولات زعزعة استقرار البلاد، ونجح في رفع التحدي بشكل لم يكن متوقّعا، وسمح بجعل الجزائر في منأى عن المخاطر الكبرى التي كادت أن تعصف حتى بأسسها. ومما يحز في النفس، هو أن المؤسسة العسكرية قد تعرّضت مؤخرا إلى هجمة لاذعة ومؤسفة لا طائل من ورائها سوى إضعاف جهاز الدفاع والأمن الوطنيين من جديد، وفتح الباب أمام المخاطر المتعددة التي تحدق بالجزائر. غير أن الجيش الوطني الشعبي في هذا المجال، مؤهل تماما للتصدي لمثل هذه المخاطر، اعتبارا لصفات الرجال العاملين به، وبما يتوفر عليه من طاقات وطنية كفيلة بتمكينهم من أداء مهامهم وواجبهم في خدمة الأمة دون سواها. إن الجيش الوطني الشعبي بكل مكوّناته، سيظل قبل كل شيء في خدمة الوطن. وكل المسؤولين الذين تعاقبوا على العمل باسمه منذ الاستقلال الوطني، قد كانوا، قبل أي اعتبار آخر، يسترشدون بواجب الحفاظ على تماسك صفوفه في ظل احترام القانون، وتعزيز قدراته العملياتية من أجل حماية الوطن. وسيظل التماسك الداخلي للجيش الوطني الشعبي وامتداده الشعبي يشكّلان الاثنان معا العاملين الحقيقيين لقوته. بيد أن الجيش الوطني الشعبي، بعد أن ساهم في تعزيز الاستقرار والأمن بمساعدة مصالح الأمن وبدعم حاسم من القوى الوطنية، سيظل ملتزما في هذه المعركة الحيوية لكونه يدرك أنه يمثّل الدرع المسلح القادر على التعرض لكل المحاولات الهادفة إلى المساس بالجزائر، اقتداء بجيش التحرير الوطني المجيد، أو الرامية إلى النيل من سيادتها وسلامة ترابها الوطني. بالفعل، فإن ما يجري اليوم على الساحة الوطنية، وعشية موعد انتخابي من الأهمية بمكان، يستحق جيدا أن يسترعي اهتمام كل الفاعلين في الحياة الوطنية، ولا يمكن التهرب منه دون تمييز لفائدة مقاربات ليس لنواياها الخفية أن تخدم بالضرورة المصالح الحيوية للجزائر. بل يجب الحذر من الاستخفاف بالوضع الراهن، والاعتقاد بأن الوفرة المالية يمكن لوحدها أن تتغلب على أزمة ثقة هيكلية. ومهما كانت مؤسسة، فإن الإحصائيات والحصائل الرقمية التي تستعرض على رأي عام وطني منزوف، لا يمكن أن تبدد شكوكه المستفحلة، ولا من شأنها أن تحتوي غليان المواطنة الذي تشهده حاليا الساحة السياسية الوطنية؛ غليان مواطنة ليس له من طموح مشروع سوى تقديم مساهمته الخاصة في بناء نظام سياسي جديد في ظل الوفاء لروح بيان أول نوفمبر 1954، وفي توافق مع المعايير المكرسة عالميا، مع الحفاظ على قيمنا وخصوصياتنا. إن مراجعة الدستور الجزائري في سنة 2008، ولاسيما تعديل المادة 74 منه، المتعلقة بتحديد العهدات الرئاسية في عهدتين، قد أدت بشكل عميق إلى تعكير النقلة النوعية التي كان يقتضيها التداول على السلطة وحرمت مسار التقويم الوطني من تحقيق مكاسب جديدة على درب الديمقراطية. وإنه من الأهمية بمكان التذكير بأن التداول على السلطة يكمن هدفه في التضامن ما بين الأجيال، وتعزيز التماسك الوطني ووضع الأسس المهيكلة لاستقرار مستدام، كما يكمن في تحصين الديمقراطية وإضفاء المصداقية على مؤسسات الجمهورية التي تعد أثمن ما ينبثق عنها. وأخيرا، فإن التداول على السلطة تتمثل غايته في ضمان أحسن الشروط الكفيلة، دون صدامات كبرى، بإحلال دولة عصرية. وفي هذا السياق، فإن تاريخ الديمقراطيات العريقة في العالم، يعلّمنا بأن الدولة القوية هي تلك التي تستمد قوتها من التعايش مع سلطة مضادة قوية بدورها، كما يعلّمنا نفس هذا التاريخ بأن مبدأ الشفافية في إدارة الشؤون العمومية، وتسيير موارد البلاد وفي ممارسة الحريات الفردية والجماعية، يشكّل رهانا قويا للحكم الراشد ويسمح بمكافحة كل أشكال التعسف والفساد، بفعالية، في ظل السلطان القاطع لسيادة القانون وإنصاف العدالة. وبهذا الشأن، ينبغي الإشارة بشدة إلى كل أولئك الذين لازالوا يشككون في العبقرية الوطنية بأن الشعب الجزائري يعرف كيف يميز بين ما هو أساسي وما هو تافه، كما يعرف كيف يتكرم مجانا بصبره الأسطوري كلما تعلق الأمر بخدمة قضية وطنية كبرى. فكل قضية تحظى بانضمام الشعب التساهمي، تصبح قضية مسموعة ولا مناص من كسبها. ولذلك، فإن العهدة الرئاسية القادمة يجب أن تندرج في إطار تصميم وطني كبير وأن تكون بمثابة الفرصة التاريخية للعمل على توفير الشروط الملائمة لإجماع وطني حول رؤية متقاسمة بشأن مستقبل الجزائر؛ رؤية يتقاسمها أهم الفاعلين في الحياة الوطنية والتي يجب بالضرورة أن تتوج في آخر المطاف، بالموافقة السيادية لكافة الشعب الجزائري. ومن شأن هذه العهدة الانتقالية أن تشكّل المرحلة الجدية الأولى لتحقيق قفزة نوعية نحو تجديد جزائري أكثر تطابقا مع التطلعات المشروعة لأجيال ما بعد الاستقلال، وفي تناسق مع التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. فقد حان الوقت لتمكين الجزائر من التوفر على الجمهورية التي يحق لها أن تشترطها على شعبها ونخبتها المستنيرة. وفي هذا الإطار وبهذا الشأن، ينبغي التذكير بكل موضوعية بأن حق التصويت يشكّل الوسيلة الدستورية الأكثر سلمية التي يستعملها المواطن للتعبير عن خياراته. كما إنه من الواجب الوطني التعبير عن خياراته، وبالتالي المساهمة في مسار إعداد القرار الوطني من خلال ممثليه المنتخبين. وعليه، فإن الصوت الذي يعبّر عنه المواطن يتعين أن يشكّل قيمة ثمينة في البناء الديمقراطي للنظام السياسي الجزائري، الذي يجب أن يحرص على عدم تقويض هذا البعد الذي لا يقدر بثمن. ذلك أنه بفعل الصوت الذي يعبّر عنه المواطن لأمكن أن تبنى جزائر الغد. وإذا كان من واجب المواطن الجزائري أن يدلي بصوته في المحطات الوطنية الكبرى، فإنه يتعين على الدولة أن توفر أحسن شروط الشفافية والحرية حتى يتم احترام هذا الخيار ويؤخذ في الحسبان بشكل حازم. وذلكم هو الأسلوب الذي تترسخ على أساسه الثقة وتستدام الممارسة الديمقراطية. وبهذه الروح، يجب أن نعتبر بأن الدستور، والتماسك الاجتماعي ووحدة القوات المسلحة للجمهورية، يشكّلون الأعمدة التي تقوم عليها الجزائر، كما إنها تمثل التراث النفيس المشترك الذي يجب أن يصونه ويذود عنه الجزائريون مهما كان مستوى وطبيعة التضحيات التي ينبغي بذلها. ومهما كانت النتيجة التي ستتمخض عن اقتراع 17 أفريل القادم، فإنه يجب أن يوضع في الحسبان وبالأخص، بأن العهدة الرئاسية القادمة تعتبر الفرصة الأخيرة التي ينبغي اغتنامها لوضع الجزائر على درب التحوّل الحقيقي. فكل المؤشرات الموضوعية تدعو إلى الشروع بصفة عاجلة وفي كنف الهدوء وبصفة سلمية، في الأشغال الكبرى لهذا المسعى الوطني المنقذ، الذي يستوجب إشراك جميع الجزائريين في إنجازه؛ وهو هدف وطني كبير يخطئ كل من يعتقد بأنه قد يتحقق بإرادة رجل واحد مهما كان ملهما، ولا بإرادة قوة حزب سياسي وحيد مهما كان مستوى الأغلبية التي يمثّلها. فعظمة التصور الوطني مرتبط ارتباطا وثيقا بعظمة الشعب وقدرته على العمل باستمرار على كسب فضاءات ديمقراطية جديدة. وفي هذا المنظور، فإن بلادنا غنية، بلا شك، بالقدرات والطاقات الكفيلة بتمكينها من المضي قدما نحو كسب استحقاقات جديدة. وقد أثبت الشعب الجزائري على مر تاريخه، وفي كل الظروف، بأنه قوي بوحدته، وقادر على رفع أكبر التحديات. تحيا الجزائر، المجد والخلود لشهدائنا الأبرار. اليمين زروال

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: