38serv
إن صيغة الجمع التي استعملها في العنوان موضوعة عن قصد، لأن كل مغزى حديثي في هذا المقال يكمن في ما يظهر كتناقض فيه.رغم كل الذي قلته عنه لا أعتقد أن بوتفليقة هو وحش نرجسي قفز من حلقة كابوسية من تاريخنا، أو يمثل حالة استثنائية ووحيدة من ناحية النوع أو العدد في تاريخنا المؤسساتي. بداية حياته في المغرب أين ولد وأمضى حياته حتى استقلال الجزائر هي التي رسخت في عقليته الإعجاب إلى حد الانبهار بالسلطة المطلقة التي يتمتع بها المخزن أو الملكية العلوية. دخل إلى الجزائر وحكومتها في نفس الوقت وسنه لا يتعدى 25 سنة ولم يكن قد عرف منصب عمل آخر قبلها. ووجد نفسه في الوقت والمكان المناسبين لتعلم حرفة الاستبداد عبر متابعة ممارسات بن بلة ومن بعده بومدين، اللذين لم يكونا ليتركا السلطة بخيارهما لولا أن الأول خلع بانقلاب والثاني توفي فجأة.وفي هذا الميدان تخرّج كلاهما من مدرسة الزعيم مصالي حاج الذي أدان ثورة نوفمبر وقاومها لأنها لم تبدأ بمشيئته ولم تكن تحت قيادته. بعد هؤلاء، لم يكن الشاذلي، بوضياف وكافي ليتركوا السلطة من طوعهم. حتى الذين حلموا بها دون أن يصلوا اليها مثل عباسي مدني الذي استنشق رائحة مسك الخلافة لفترة وجيزة، كانوا سيجدون أسبابا وأعذارا لأن لا يتركوها. وتماما كما لن يتركها سعداني إذا ما غامرت بنا الأقدار ووصل إليها عبر القطار الذي تخفيه عن أعيننا قافلة العهدة الرابعة. لم يساو أحد من هذه الأسماء حظ ”محمد الديب” (شخصية شعبية مماثلة لجحا وليس الكاتب الكبير محمد ديب).نتساءل لماذا لا تقفز إلى أعين كل الناس في بعض الأحيان أشياء رغم أنها غاية الوضوح؟ لا يمكن الخروج من عدة قرون من الاستعمارات المتتالية والتنصب باطمئنان في أشكال حياة معاصرة مقلدين بذلك أمما أخرى، دون أن نتمكن قبل ذلك من القواعد والقوانين التي تسيرها. لا يمكن أن نكون نسخة مطابقة لمواطنين ”عاديين” دون المرور على خبرة اجتماعية طويلة وثقافة دولة حقوق وتربية مدنية وسياسية. فتماما مثلما توجد وراثة بيولوجية وجينية، توجد كذلك وراثة اجتماعية وثقافية.بالنسبة لنا نحن الجزائريون، فإن تصوراتنا النفسية الموروثة عن أجدادنا والثقافة الشفوية والريفية التي تلقيناها وممارساتنا الاجتماعية التي ترضخ لتقاليد بالية وشعائرية دينية لا تترك إلا القليل من المجال للعقلانية؛ كل هذه المعطيات لا تزال تتحكم في طرق تفكيرنا وتطبع السواد الأعظم من تصرفاتنا، فتقيهم بذلك من نفوذ زائد لمستجدات العصرنة تماما مثلما تحمي طبقة الأوزون الأرض من التعرض الزائد لأشعة الشمس.لا يمكن لأنظمة اجتماعية وسياسية عصرية ومتقدمة أن تتشكل في مدة 50 سنة فقط، في ظل غياب سوابق لحكم ذاتي لعدة قرون متتالية، وفي غياب روابط اقتصادية واجتماعية وسياسية بين أفراد المجموعة، وبإنتاج فكري شبه منعدم. فنحن لم نتمكن بعد من تطوير هذا الوجه الخفي من شخصيتنا والذي تنبع منه الأفكار والتصرفات التي تدفعنا أحيانا إلى المشي عكس مسيرة التطور البشري، مثلما حدث بالأمس القريب مع ”الظاهرة الأسلاموية”، وكما يحدث اليوم مع العهدة الرابعة التي نقبل من خلالها الدخول في فترة من التقهقر قد تقضي علينا. نتظاهر أن كل شيء على ما يرام وأن حالتنا ”عادية” ونفضل الاعتقاد أنه لا يوجد فرق بين إنسان لم يسبق له أن عرف الاستعمار، وآخر مرت عليه استعمارات سياسية وعسكرية وثقافية عديدة، ونظن أن الاثنين متساويان ويمكنهما لعب نفس الأدوار.يمكن تبسيط الأمور باستعمال صورة قد تزعج قليلا لكني أخالها توضح الفكرة أكثر. خلال فترة الاحتلال الفرنسي كانت الجزائر بالنسبة للفرنسيين عبارة عن مستعمرة، وبالنسبة للجزائريين سجنا كبيرا بحجم بلد. بعد أكثر من قرن من الحبس تخللته بضع محاولات للهرب، تمكن السجناء أخيرا من التنظم والاتفاق على مخطط يحررهم من قيود سجانيهم. وبدأ التمرد يوما وطال كل أجنحة السجن مستمرا سبع سنوات انتهت باستسلام الإدارة وكتائب سجانيها ورحيلهم، وهرب الـ10 ملايين من السجناء دفعة واحدة. كان عندئذ على هؤلاء أن يتزودوا بهيئات أصبحت ضرورية لضمان بقائهم على قيد الحياة. لكن السجناء، باستثناء عدد قليل منهم، درسوا أثناء قضاء فترتهم، لم يعرفوا إلا القليل عما قد تكون عليه دولة أو عن كيفية صناعة واحدة تناسبهم. القليل الذي كانوا يعرفونه كان باركا تحت سيطرة تصورهم الدون-واعي للكون، والذي يختلط فيه المعاصر مع التقليدي المحافظ، وتجتمع وتختلط فيه أفكار عديدة مع بعضها: الله، الرسول (صلعم)، الخلفاء الراشدون منهم وغير الراشدين. لقد كانوا يرون في الدولة وجها للسلطة، للتسلط، للقيادة وللقوة المهيمنة التي تخضع لها القوى الأخرى.كل صور الماضي التي كانت تحصيها الذاكرة السياسية للمتحررين الجدد كانت تصب في اتجاه نظرة السلطة المطلقة: الأقليد وملوك ما قبل التاريخ، السلطان وأمراء الخلافات العربية الأمازيغية، الداي والباي في العهد العثماني والباشاغا والقايد خلال فترة السجن. فاضطرت الدولة الجديدة إذن، ومن أجل كسب الشرعية، إلى السعي للتزود بواجهة جديدة، واجهة مخادعة: ضمان الخبز والبرنوس لقدامى السجناء، وتوزيع الريع والامتيازات على الخادمين الجدد.الدولة الجزائرية التي ولدت من رحم هذا التصور وتلك الظروف لم تنبع من رضى مجموع السجناء، بل تشكلت من تلقاء نفسها. وتأمن بذلك استمرار الأساليب التسلطية القديمة للحكم انطلاقا من حكم بن بلة، واستمر من بعده مع خلفائه، وصولا إلى الرئاسة الأبدية في عهد بوتفليقة. هذه هي الأشكال التي يعرفها الجزائريون وتلك كل الثقافة السياسية التي شهدوها منذ قديم الزمان.بين سنتي 2011 و2013، كتبت مساهمات نشرت في صحيفة Le Soir d’Algérie تطرقت من خلالها إلى الربيع العربي. ولم يكن اهتمامي موجها نحو مظاهره أو نتائجه السياسية، بل نحو أسسه الثقافية والنفسية، وكانت نظرتي إليه فكرية وثقافية. وراء تحركات الجماهير والخطابات السياسية، كنت أتفحص بمنتهى الدقة التيارات الفكرية التي تسقيها. كنت ألاحظ عن قرب الحالة الجديدة للإنسان العربي المسلم وهو حائر بين اتجاهين تاريخيين مختلفين. ممزقا بين الخيار الديمقراطي والتجربة الدينية. وعندما وصل وقت الانتخابات حاولت أن أشرح كيف سينتج عن هذه الصحوة السحرية، تصويت آلي. كنت أرى في سقوط الأنظمة تهاويا لثقافة استبدادية يحملها على حد سواء الحاكم ورعيته ”القابلة للاستبداد”.يتبعترجمة: ب. وليد يمكن للقراء الذين فاتهم أحد المقالات أن يجدوه في صفحة الفايسبوك (noureddineboukrouh.facebook).
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات