ذَكَرَ العلامة ابن كثير أنّه لمّا ظهرت مخايل الحمل على مريم عليها السّلام، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها، يخدم معها البيت المقدس، يقال له ”يوسف النّجار”، فلمّا رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثمّ صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثمّ تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال: يا مريم، إنّي سائلك عن أمر، فلا تعجلي عليّ، قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قطّ شجر من غير حَبٍّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم، أمّا قولك: هل يكون شجر من غير حبّ وزرع من غير بذر؟ فإنّ اللّه قد خلق الشّجر والزّرع أوّل ما خلقهما من غير حبّ، ولا بذر. وأمّا قولك: وهل خَلْقٌ يكون من غير أب؟ فإنّ اللّه قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدّقها، وسلّم لها حالها.ثمّ ينتقل حديث القرآن عن مريم عليها السّلام إلى مشهد جديد، بعد أن وضعت حملها، وهدأت نفسها، إنّه مشهد القوم الّذين تنتسب إليهم، وهي الآن بينهم، تحمل طفلها، الّذي هو فلذة كبدها. لكن ماذا سيقولون لها، وعهدهم بها أنّها لم تعرف زوجًا فيما مضى، وأنّها حسنة السُّمعة بينهم، شريفة النَّسب، {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} مريم:27-28، بيد أنّ مريم لم تنبس ببنت شفة، بل أشارت إلى وليدها، وكأنّ اللّه ألهمها أنّ هذا الوليد سوف ينطق بالحقيقة الّتي تُخرس الألسنة، وتلجمها عن الحديث فيما هو غير مألوف من حياتها، {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} مريم:29.ثمّ يصوّر لنا المشهد القرآني الطفل وهو ينطق بحقيقة ما حدث، وواقع أمره وما جاء به: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} مريم:30-33، فهو أوّلًا وقبل كلّ شيء عبد للّه، ولم يقل: أنَا اللّه، ولا ابن اللّه، بل قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} إلى أن قال: {وَإِنَّ اللّه رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} مريم:36، فقد أنطق اللّه الطفل؛ ليبيِّن حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق، والغاية من هذا الخلق الإنساني العجيب.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات