+ -

 يذكر الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، رحمه الله، عن رحلته إلى اليابان ما يلي: من الأمور التي أثارت انتباهي ودهشتي بمجرد دخولي فندق بطوكيو خريطة العالم المعلقة فوق جدار مكتب الاستقبال، فوضع العالم فيها يختلف عن وضعه في الخرائط التي ألفناها. ففي خرائطنا المعلقة على الجدران يقع حوض البحر الأبيض المتوسط في الوسط، في مركز العالم، بينما تقع اليابان وجيرانها في الطرف الأقصى من جهة الشرق. أما خريطة الكرة الأرضية في اليابان فهي عكس ذلك، إذ يقع اليابان وجيرانه في الوسط، في مركز العالم. وقد وجدت صعوبة في تحديد مكان المغرب فيها. فالمغرب الذي يقع على الخط الوهمي الذي يقاس به الزمن والمعروف بخط غرينتش في بريطانيا، احتل نهاية العالم من الغرب، بينما احتلت أمريكا بدايته من الشرق. ويواصل عابد الجابري حديثه قائلا: في هذه الأثناء تذكرت الخريطة التي وضعها الإدريسي، الجغرافي العربي القديم، والتي علقت في واجهة المدرج الذي يحمل اسمه في كلية الآداب بالجامعة في الرباط، فقد كان الجنوب بها يقع في الجهة العليا للخريطة بينما الشمال يقع في الجهة السفلى. فقلت لنفسي: غريب لا يوجد مركز العالم. في زمن الإدريسي كنا نحن مركز العالم، وبعد ذلك ومنذ ثلاثة قرون أقصتنا أوروبا من المركز إلى الأطراف. وها هي اليابان ومعها الصين والشرق الأقصى تبني مركزيتها انطلاقا من تصحيح وضع خريطة العالم على جدران فنادقها، وكأنها تريد أن تقدم لروادها من المسؤولين ورجال الأعمال والسياح من مختلف بقاع العالم صورة وضعها في المستقبل.قد يختلف أتباع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو مع الاستنتاج الذي توصل إليه الجابري، إذ أنهم يرون أن هذا المثال يكشف، بشكل لا يخلو من الوضوح، أن تَمَثُّل العالم قائم على ارتباط المعرفة بالسلطة. ويؤازرهم في ذلك أتباع المدرسة التي اصطلح على تسميتها بما بعد الاستعمار، الذين يعززون موقفهم هذا بدراستهم للإنتاج الأدبي والفني الغربي. ويمكن أن نذكر في هذا الصدد وعلى سبيل المثال رواية “ثمانية أيام حول العالم” للكاتب الفرنسي جيل فيرن، التي رسمت خريطة العالم بشكل أدبي وترفيهي، وفق النظرة الاستعمارية السائدة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والتي رسخته المركزية الأوروبية. ولم تتحرر الخرائط الجغرافية من نتائج ارتباط المعرفة بالسلطة حتى في أفلام كارتون “والت ديزني” التي رسمت بطلتها البطة دولاند ديك خريطة دول جنوب أمريكا!ويرى بعض الباحثين أن الأمر يتجاوز علاقة السلطة بالمعرفة. فالخريطة الجغرافية هي جزء من تمثلات الفكر للواقع، والاختلاف في التفكير بين البشر يعبّر عن تباين في طرق الاستدلال والتحليل والاستنتاج والتعبير التي تجسد تباين نظرتهم لذاتهم، ولغيرهم، وللعالم، والكون، أي أن حياتنا الثقافية تتدخل، بقوة، في تحديد طريقتنا في التفكير وفي فهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية، وفي التعبير عن مشاعرنا وأحاسيسنا. ففي هذا الصدد يمكن أن نفهم لماذا يفتقر الأدب الصيني إلى المأساة والملحمة. فثنائية الخير والشر التي كانت ولاتزال محرك الأدب الغربي لا وجود لها في الأدب الصيني، ولا مفهوم المحاكاة. لكن التراث الاستعماري والمركزية الأوروبية نمطا القيم والمعايير الفنية والجمالية. ففي هذا الصدد يعتقد الكاتب الياباني جونيشيرو تانيزاكي أن اليابان تخلت عن مصدر مهم من مصادر القيم الجمالية في ثقافتها وهو الظل، لتتبنى قيماً ثقافية غربية عنها تفضل الأضواء الساطعة. وعالم النفس الأمريكي، ريتشاد أي بنيست، بذل جهدا كبيرا لفهم الاختلاف في أساليب تفكير الشعوب الآسيوية والغربية في كتابه الموسوم “جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والآسيويون، ولماذا؟” الصادر في 2003. وقد قاده هذا السؤال إلى المطالبة بمراجعة أسس التفكير الإنساني التي أرستها فلسفة الأنوار، والتي تنص على أن أنماط الفكر البشري واحدة أينما كان البشر في الغرب أو الشرق، وأن طبيعة الفكر البشري كونية وكلية. فحسب الفلسفة المذكورة أن الناس يفكرون ويستقرئون الواقع وفق منطق واحد، حيثما كانوا ومهما كانت ثقافتهم، وأن رؤيتهم للعالم واحدة. وإذا كان الكثير من الناس يشاطرون عالم النفس الأمريكي فيما ذهب إليه، فالقليل منهم يرى أن الأحداث التي يعيشها عالم اليوم تدعونا إلى التفكير والبحث في السؤال التالي: لماذا كفّت بعض الشعوب عن التفكير أصلا؟     

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: