38serv

+ -

بعد عقود طويلة من الصراعات الحادة والجدل والمعارك والمساجلات والمفاضلات المفعمة بالتوظيف المستمر لآليات الدفاع الذاتي والتي على إثرها اتضح التراجع الكبير للإسلام السياسي الذي تقلص دوره وبدأ في التحول إلى ظاهرة هامشية، بعد أن فشلت كل تلك المحاولات التي جعلت من الدين إيديولوجيا سياسية وحاولت عبر ذلك تحقيق هدف بناء مجتمع  “إسلامي” انطلاقا من الدولة ولكن ولأن مفهوم الدولة بطبيعته يمنح الأولوية للسياسة ولأن للسياسة أدوات وآليات وتوازنات وحسابات لا تتقاطع مع منظومة القيم التي يمثلها الدين، سرعان ما يؤدي تراكم الأخطاء المتناقضة مع جوهر الدين وما يحمله من مثل وأخلاق إلى مطالبة الشعوب باستقلالية الدين عن السياسة وتحريره منها حفاظا عليه، وهو ثمن دفعه كل من حاول توظيف الدين من أجل تحقيق أهداف سياسية، وفي غياب أي ملامح ثورة فكرية ومعرفية جديدة في العالم العربي والإسلامي منذ أن خبت تلك الاجتهادات ذات العلاقة ببنية العقل العربي وبحث إشكالية التراث والحداثة.. الخ.. وفي وقت تبلورت واتضحت معالم الهوية بكل أبعادها الدينية والعرقية واللغوية والثقافية وفقا لحقائق التاريخ المعيش وبعيدا عن كل ما هو طوباوي ومغرٍ عند البعض، حتى كادت تحسم معها إشكالية الهوية، فكان من آثار ذلك أنها لم تعد توضع في مواجهة الحداثة كما كان يجري من قبل، حيث كان سؤال الهوية يحضر كلما  حضر سؤال الحداثة ومن ثم يكون الصدام. أما اليوم ففي الدول التي تم فيها تجاوز هذه الإشكاليات بعد صراعات دموية مريرة، فإن الدفاع عن الهوية لم يعد يتطلب معاداة الحداثة، وفي ظل ظروف فكرية أكثر ما يميزها غياب الإيديولوجيات التي فشلت في تحقيق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، ومع زوال الحواجز اللغوية والسيكولوجية المانعة التي سببتها عوامل تاريخية مثل الحروب الصليبية والاستعمار، يعود سؤال الحداثة للتداول من جديد ليعكس حالة القطيعة مع عادات فكرية مفعمة بالعطالة والكسل ويؤسس بدلا عن ذلك نظاما ومصفوفة جديدة تقوم على ديناميكية فكرية متجددة ومتناغمة مع القيم الدينية، حيث إن مفهوم الحداثة لا يزيد عن كونه حركة أفكار مبتكرة تتجدد باستمرار، حيث تتجلى في موجات أو تقليعات متوالية تمتد إلى مجالات وفضاءات اقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية، وتمس قضايا العدل والمساواة والحرية والتقدم والعنف وحقوق الإنسان والتربية والوطنية واللغة ومعضلات الاقتصاد والإنتاج والتكنولوجيا والبحث العلمي وحماية البيئة ودور الآداب والفلسفة والفنون وبنوك المعلومات ووسائل المعلومات المكتوبة والمسموعة والمرئية، ومع ظهور نمط جديد من التدين القائم على الاقتناع الحر والمسؤولية الفردية،  في أجواء فكرية عامة بدأت تعرض عن الوصاية وترفض ذهنية التكفير والتأثيم وتتمرد على كل الكوابح المقيدة للتفكير الحر،  ومن ثم بدأت بعض معاني الشخصانية والفردانية تتكرس أكثر فأكثر بالتلازم مع مقتضيات حرية الضمير. وفي ظل هذه المعطيات المرتبطة بحسم معركة الهوية وفصل الإسلام عن ذلك البعد الإيديولوجي الذي ركب له تعسفا بسبب توظيف آليات الصراع التي نشأت عليها وفي ظلها الحركات الإسلامية واسترجاعه لبعده الرسالي المنسجم مع نزوع الشباب إلى الالتزام الفردي بالدين بعيدا عن الجماعات والحركات والأحزاب الإسلامية وبعد أن اتضح بأنه ليس للإسلام مفهوم محدد للحكم وأن أي جدل يدور بين الاتجاهات الفكرية لا يمكن اعتباره جدلا بين الإسلام والحداثة أو حركة الأفكار بقدر ما يمكن النظر إليه كنقاش بين حالة تأويلية مجردة من أي قدسية وهي لا تخرج عن دائرة الاجتهاد والحداثة، ومن ثم ووفقا لكل هذه المعطيات والعوامل يمكننا اليوم  تشخيص حالتنا الحضارية بتأكيدنا على أننا نكاد ندشن دخولا في سيرورة التحديث والحداثة التي تؤشر عليها حالة القلق الفكري البادية على أتباع الحركات الإسلامية نفسها، وحالة أخرى من التطلع إلى الابتكار والتجديد والاستكشاف عند باقي النخب، الأمر الذي يؤكد تجاوز المسلمات التقليدية التي كانت تحول دون الخروج من ذلك الصدام إلى فضاء أوسع هو فضاء البحث عن المجهول. إنها مغامرة الاستكشاف وجرأة الانطلاق في رحلة بلا معالم، هي رحلة الابتكار والإبداع التي تنتهي دوما بالإنجاز  المادي الذي ينعكس على الاقتصاد وبالتالي على قوة الدولة وكذلك على إنتاج القيم والأفكار وبما يضفي على البعد الرسالي للإسلام مزيدا من الإشراق  وعلى الحالة التأويلية لنصوصه مزيدا من العمق عبر سيرورة الاجتهاد، كل ذلك يؤكد بأن المرحلة القادمة هي مرحلة عودة سؤال الحداثة من جديد ولكنها هذه المرة حداثة قائمة على التصالح، لأنها مبنية على تبلور الهوية وثباتها من جهة وعلى التنوير والتجديد من جهة ثانية ولأن مجتمعنا  خاض معارك دموية قاسية كانت من بين العوامل التي أسهمت في علاج العمى المعرفي بسبب ما أفرزته من تساؤلات كانت من قبل بمثابة المسلمات.      

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: