+ -

 من أغرب الأمور التي أصبحت ألاحظها وأقرأها خلال السنوات الأخيرة، وأتابعها بكثير من المرارة والأسف، هذا التباهي حد السعادة، بنكران التاريخ والتنصل منه تنصلا كاملا ومطلقا، والنفور من سماع أجراسه والتقزز من دقّ أبوابه. كثير من الناس، استنتج هذه الملاحظة الغبية في نظري: ”مادام السلطة تستمد شرعيتها من التاريخ، فعلينا أن ننكر هذا التاريخ، ونتجنبه كما نتجنب وباء الطاعون”. وهي فكرة سطحية، تنم عن غباء كبير. وكأني بهؤلاء يريدون إنسانا جديدا متنصلا ومتحررا من تاريخه. ينطلق من الواقع. ويتباهى بتوغله في عالم اليوم، وما يزخر به من تكنولوجيا وعوالم افتراضية، ضمن شرعية جديدة، هي شرعية العلم. يضع هؤلاء هذا الواقع في موقع حرب وصدام مع التاريخ، بكل ما تعنيه كلمة حرب من رغبة في المحو والقتل والرفض والإنكار، اعتقادا منهم أنهم بصدد بناء إنسان قادر على الانتقال إلى مرحلة أسمى تسمى المواطنة، لكن بعد التخلص من عبء التاريخ الذي يعتبرونه ثقيلا. أصبح التاريخ حسب هؤلاء موضوعا في قفص الاتهام. جعلوه محل محاكمة وألصقوا به كل التهم. وكأني به هو الذي أدى بنا إلى كل هذا الإخفاق، وهو سبب تخلفنا، وعدم قدرتنا على مسايرة مسار ديمقراطي سوي. حولوه إلى موضوع سيئ السمعة، منبوذ، ولا يليق الالتفات إليه. جعلوا منه مرادفا للإخفاق، لا يصنع سوى الخيبة، فقط لأن السلطة حكمت وما تزال تحكم باسم الشرعية الثورية، وتستعمل التاريخ لأغراض سياسية. وكلنا يتذكر صيحة بعض الجزائريين المحسوبين على التيار الفرانكفوني أمام ثانوية ديكارت بالجزائر العاصمة، في منتصف ثمانينيات القرن الفارط، لما استنكروا ممارسات السلطة بتلك الصيحة الغبية والغريبة ”التاريخ في المزبلة”. لقد ردوا على استعمالات السلطة للتاريخ بتوريط التاريخ، بدل تخليصه وتحريره من تلاعب السياسة. ومن ”التاريخ في المزبلة”، وصلنا إلى نبذ التاريخ، وتجاهل أجراسه. هؤلاء يريدون لنا حياة بلا ذاكرة. وثقافة بلا تاريخ. وبالفعل لا أدبنا اهتم بالتاريخ، ولا فلسفتنا تقرأ متن السلف. كل ما يريدونه، هو وثبة تنطلق من الواقع برفض التاريخ. مسألة الأمازيغية مثلا، باعتبارها مسألة الأصول، اقتصر النظر إليها من كثرة الاستعمال السياسي على كونها مسألة آنية، ولغوية. بينما هي عبارة عن عمق حضاري، وتواجد في التاريخ البشري. هي أكثر من مسألة لغوية. وحصرها في قضية اللغة، يعني تجاهل ما تعنيه كثقافة تملك قدرة التحول إلى مرجعية لبناء هذه المواطنة التي نتحدث عنها صباح مساء، وهي فرصة للتحرر من معوقات إثبات الذات انطلاقا من التاريخ، وليس من الفراغ. وكيف ينجح  المثقف في جدله مع السلطة (جدل النزاهة مع القهر) إذا لم يكن المثقف حاملا لخطاب يقوم على الهوية والتاريخ، وعلى كل ما تحاول السلطة تدجينه، وقمعه وتفريغه من محتواه؟ إن المثقف الذي لا يستمع إلى همسات الماضي، ليس بإمكانه أن يحمي الهوية، ويحرس الرأسمال الرمزي للمجتمع، من منطلق أن المثقف يشغل مكانة وسطى بين الماضي والواقع. وتاريخ أجدادنا الأمازيغ الذي لم نكتبه بعدٌ، يجب أن يندرج ضمن سؤال الهوية والتاريخ والذات، وليس ضمن مسألة اللغة فقط. فهل تتحقق المواطنة بنكران التاريخ، وتجاهله، فقط لأنه جزء من شرعية السلطة؟ أعتقد أن المواطنة عبارة عن لحظة آنية تنطلق من التاريخ، ومن الذات. تنمو مرسخة في الماضي، وتثب نحو الارتقاء. لا تنطلق المواطنة من الفراغ، ولا من أفكار فلسفية لهذه المدرسة الغربية أو تلك، ولا من لحظة تاريخية أخرى غير اللحظة التاريخية التي انطلقت من رحم المحلية. لا أتصور مواطنا عديم المعرفة التاريخية. ولا إنسانا قادرا على التطور وهو يدير ظهره لذاته. فالتباهي بالارتباط بالواقع لا يصنع سوى إنسان لقيط يظن أنه حر طليق، وهو في الحقيقة يسير نحو المجهول.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: