+ -

بدأت مسرحية ”بودي غارد” المصرية عرضها متأخرة كالعادة. وضجت مدرجات مسرح الهواء الطلق بالمركز الثقافي العيدي فليسي بالشباب الذي أتى بعدّته المعهودة التي يصطحبها معه في كل تنقلاته إلى ملاعب كرة القدم. فتعالى صياحه وصفيره. وارتفعت الأهازيج التي يرددها مناصرو فرق كرة القدم طيلة مدة عرض المسرحية!  وقد شجعت رداءة صوت الممثلين المنبعث من مكبرات الصوت الشباب على المضي قدما في هرجهم ومرجهم. ففي هذه اللحظة تذكرت المرحوم عبد القادر علولة، وخلته يتقلب في قبره غاضبا، وهو يتمتم قائلا: ”لا لا هذا ليس مسرح الحلقة الذي تحدثت عنه”.انتهى العرض المسرحي مثلما بدأ، وخيّل لي أنني كنت في ملعب مصطفى تشاكر بالبليدة أشاهد مباراة في تنس الطاولة وليس كرة القدم! وتساءلت في سري: أيعقل أن تفقد الجزائر تقاليدها في تنظيم العروض المسرحية؟ ألم يعد الشباب الجزائري يفرّق بين متابعة مباراة في كرة القدم في مدرجات الملاعب ومشاهدة عرض مسرحي؟ وكيف أضعنا الجهود المضنية التي بذلها الجيل السالف من أجل تشكيل جمهور مسرحي؟  يروي الباحث حسن تليلاني أن أب المسرح الجزائري الراحل ”علالو” استطاع أن يجمع ألفا وخمسمائة متفرج دفعوا التذاكر لمشاهدة أول عرض بعنوان ”جحا” في منتصف شهر أفريل من عام 1926 بقاعة ”الكورسال” بباب الوادى! ومهما خفّفنا من المبالغة في هذا العدد، فإنه يفصح عن عجز أي مخرج مسرحي في جذب العدد ذاته من الجمهور، مما يبيّن العمل الشاق الذي قامت به أجيال من الفنانين الجزائريين من أجل إرساء الفن الرابع في بلادنا، وترسيخ تقاليد العرض المسرحي في المجتمع الجزائري. ففي هذا الصدد يذكر الفنان طه العامري، أن العرض المسرحي الجزائري كان يرفق دائما بحفل موسيقى في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. فالناس يأتون لمشاهدة العرضين معا. فالموسيقى كانت تستغل لتشجيع الناس على دخول المسرح وتعويدهم على ذلك. وقد استمر هذا التقليد إلى غاية 1955. ويواصل قائلا: من أجل الحفاظ على جمهور المسرح وتمتّين علاقته بالعرض المسرحي، كنا نحترم مواعيد الموسم المسرحي الذي يبدأ في شهر سبتمبر ويختتم في 15 ماي من كل سنة! ونضطر إلى تغيير المسرحيات كل مرة حتى نرضي الجمهور الذي يكفّ عن القدوم إلى المسرح إذا استمرت مسرحية واحدة في العرض لمدة زمنية طويلة. فالرهان كان في ذلك الوقت يتمثل في تطوير العرض المسرحي حتى لا يفقد المسرح جمهوره في ظل مضايقات السلطات الاستعمارية. وبالفعل، فقد تمكّن المرحوم محي الدين بشطارزي من تشكيل جمهوره الذي كان يقدر في تلك السنوات ما بين 700 و800 متفرج دائم!إن تزايد عدد سكان الجزائر اليوم وتعدد مسارحها وارتفاع مستوى معيشة أبنائها مقارنة بمواطنيهم في العهد الاستعماري، وارتفاع مستوى تعليمهم، وتزايد وسائل النقل وتنوّعها، وتعدد وسائل الإعلام التي تروّج للعروض المسرحية التي تقدم في كثير من الأحيان مجانا، كلها عوامل ترافع لصالح احتمال زيادة عدد رواد المسرح في بلادنا. لكن الواقع يؤكد عكس ذلك، فبعض المسرحيات تعرض في مسارح شبه خاوية أو أمام جمهور قليل العدد. فأين ذهب الجمهور؟الأدهى أن هذا السؤال ينطبق أيضا، على جمهور السينما. ففي 1962 كان عدد قاعات السينما يقدّر بحوالي 432 قاعة. وكانت الجزائر تستورد ما بين 350  و400 فيلم من كل بلدان العالم تقريبا. وتراجع عدد هذه القاعات في 2000 إلى 15 قاعة فقط في كامل التراب الوطني. وبالمقابل تزايد عدد الجزائريين، خاصة من الشباب، الذين لا يعرفون ما معنى مشاهدة فيلم سينمائي في قاعة مظلمة! فيمكن أن نستعيد القاعات التي ورثناها عن الاستعمار ونجهّزها بأحدث تكنولوجية رقمية، لكن أين الجمهور؟ قد يقول البعض مستنكرا إن الجمهور سيأتي إذا كانت القاعة ملائمة والفيلم جيدا. لكن أي جمهور؟ هل الجمهور الذي لا يفرّق بين مشاهدة فيلم ومتابعة مقابلة في كرة القدم؟ فالجمهور لا يتشكّل في لحظة، ولا بالمهرجانات ”الفلكلورية”، بل نتيجة لممارسة ثقافية ترسّخها التقاليد. فيمكن أن نموّل الأفلام السينمائية ونشارك بها في المهرجانات العالمية، لكن لا أحد يشاهدها في الجزائر! لا أعتقد أن هناك من يجرؤ على اتهام  المفكر ”فرانتز فانون” بالجنون، لأنه كان يعرض أفلاما سينمائية في المصحات العقلية بالبليدة ووادي عيسي بتيزي وزو أثناء الثورة التحريرية؟ فبعد أكثر من ربع قرن أصبحنا نوظّف كل الحجج لحرمان ”العقلاء” من مشاهدة فيلم سينمائي!

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: