تسبب تحول رجاء غارودي من مثقف يساري ستاليني إلى مؤمن بالديانة الإسلامية، في عزلته، وفي عداء المثقفين الفرنسيين لأفكاره. وأصبح الجميع يرتاب منه بشكل لا رجعة فيه، عقب مواقفه المناصرة للقضية الفلسطينية، وموقفه من مسألة المحرقة، حيث شكك في الأرقام الشائعة حول إبادة يهود أوروبا في غرف الغاز على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وهي المسألة التي أوصلته إلى المحاكم سنة 1988، فصدر حكم قضائي ضده بتهمة ”الحقد العرقي”، فلم يجد من سند بجانبه في محنته سوى المحامي جاك فيرجيس والقس بيار. أما النقد تجاه مواقفه، فكان كثيرا، حيث جاء حتى من إدوارد سعيد الذي قال عنه كلاما قاسيا وخطيرا بسبب آرائه بخصوص المحرقة، فحذر المثقفين العرب من الأفكار التي يروج لها غارودي، ليتحول لمثقّف ومفكر إشكالي مثير للجدل ترك بصماته الواضحة على عصره، في انتظار أن يلقى من ينصفه ويعيد له الاعتبار.شكّل موقف رجاء غارودي من الدين، وعلاقته بالتنمية الاقتصادية، نقطة تحول في نظرة المثقفين الغربيين لمساره ولطروحاته، حيث طرح فكرة قدرة الدين على لعب دور إيجابي في بناء الاشتراكية في كل من مصر والجزائر. وهي الفكرة التي تتناقض مع طرح الزعيم الثوري ارنستو غيفارا الذي أسرّ للمسؤولين الجزائريين، وعلى رأسهم الرئيس أحمد بن بلة، خلال زيارته التاريخية للجزائر سنة 1963 بأن الإسلام يتعارض مع بناء الاشتراكية. وذهب غارودي إلى حد اعتبار الدين بمثابة ”حافز” وليس ”أفيون للشعوب” كما روّجت له الماركسية. وأصبح الحزب الشيوعي الفرنسي الذي التحق به غارودي منذ سنة 1933، ينظر إليه نظرة شك وارتياب، بالأخص عقب الجدل الذي دار بينه وبين لويس ألتوسير، حول ”إنسانية النظرية الماركسية”، ما أدى في النهاية إلى طرده من الحزب سنة 1970.وتعد مواقف غارودي من ”إنسانية الماركسية”، كجزء من رسالة الدكتوراه التي ناقشها بعنوان ”النظرية المادية في المعرفة”. وقد أوصلته هذه النظرة النقدية لتأليف كتاب حول النقد الأدبي والفني بعنوان ”واقعية بلا ضفاف” انتقد من خلاله نظرية الواقعية الاشتراكية الكلاسيكية، واعترض على فلسفتها ”التي تجمد الفنون والآداب، وتجعل من الالتزام بالنظرية أو المجتمع إلزاما حديديا صارما يخنق الإبداع الفني ويخمد أنفاسه”.تهميش غارودي من قبل الحزب أدى به إلى إعادة النظر في أفكاره بشكل دائم ومستمر، فطرح فكرة التقارب بين الماركسية والمسيحية في كتابه الشهير ”نداء إلى الأحياء”. وكان ذلك بداية تبلور فكرة ”حوار الحضارات” التي شكلت لاحقا نقطة أساسية في مساره الفكري خلال الثمانينيات والتسعينيات، وردد غارودي خلال هذه المرحلة مقولته الشهيرة: ”إن الحضارة الغربية تكمن فيها عقيدة ملعونة ظلت تلاحقها منذ الإغريق واليهودية إلى اليوم وهي عقدة الاستعلاء والتفرد التي ستكون سبباً في انهيارها”. ليكتب في كتابه الأكثر شهرة ”من أجل حوار للحضارات”، أن الظلام خيم على أوروبا، لما انهزمت الجيوش العربية في بواتييه. وهي فكرة سبقه إليها الروائي الفرنسي أناتول فرانس. بعدها انتقل غارودي لمواجهة ”الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، فتأكدت القطيعة بينه وبين المثقفين الفرنسيين بشكل نهائي.وأصبح رجاء غارودي مثقفا يغرد خارج السرب، بالأخص بعد نشره كتاب ”طوافي المتوحد حول القرن”، وكتابه ”كيف نصنع المستقبل؟”، حيث نعثر على نظرته السلبية للحضارة الغربية الحديثة مركزا على ظاهرة العنصرية واستبعاد الآخر. وفي كتابه ”حفارو القبور: الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها” تناول القضايا السياسية والدينية العالمية والتدهور الأخلاقي ومسألة التطرف كاستمرار للحروب الصليبية في الغرب، واختلال نظام العالم. وفي روايته الوحيدة الصادرة بعنوان ”من أكون في اعتقادكم؟”، يتحدث غارودي عن الجيل التائه الذي ينتمي إليه، فكتب ما يلي: ”إن بطلي الرئيسي ينتمي إلى جيل يبهرني. الجيل الذي ولد منتصف القرن تماماً، وقد بلغ الثامنة عشرة سنة 1968، وسيبلغ الخمسين سنة 2000، ولقد عرف المخدرات واشترك في العصابات وسلك طريق ”كاتماندو” وعانى أحلام تشي غيفارا، وكذلك قلق العصر النووي”.أدى اعتناق غارودي للديانة الإسلامية سنة 1981، في وقت برزت مظاهر التطرف والأصولية الدينية في العالم العربي الإسلامي، إلى وضعه في خانة ”المثقفين المغضوب عليهم”، فحرم من الظهور في وسائل الإعلام، ولقيت مؤلفاته رفضا ونفورا من قبل دور النشر، بدءا من منشورات ”لوسوي” التي نشرت أهم أعماله حول الماركسية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات