+ -

 تملك بعض الشخصيات التي صادفناها في حياتنا، مميزات كافية لكي تلج عالم الرواية. هذا ما حصل معي، مع شخصية سفيان رضا، في روايتي الأخيرة ”توابل المدينة”. كان سفيان رضا حالة فريدة في حيينا. كان يثير الانتباه بوسامته، وقامته الطويلة، وشعره الأشقر الرقيق، ووجهه الوديع، ذي الأنف الروماني، وطبائعه المتحضرة، التي تبرز من خلال لباسه الأنيق، الذي يزاوج بين الألوان الغامقة والفاتحة. فلُقب بالماريكاني، بسبب ولعه بالأفلام الأمريكية. كان يتردد يوميا عند الثامنة مساء على قاعة سينما ”كازينو”، أو سينما ”ريكس” لمشاهدة أفلام الويسترن. كانت تنقله بمتعة إلى السهول الخضراء المستوية التي تقطعها الأودية في الجنوب الغربي. تراوده السعادة وتسكنه وهو يشاهد قطعان البقر، وهي ترعى على أراض شاسعة، و«الكوبويز” وهم على صهوة الجياد. يتابع لحظات الصراع بين الخير والشر، والطلقات النارية، والمتابعات بالجياد، والقصص التي تظهر مُدنا في مدن أسطورية في التكساس، والأريزونا، والأركنساس، وداكوتا، وغيرها، وأهلها الذين يعيشون تحت رحمة خارجين عن القانون، فيأتي رجال عادلون، ينزلون من السهول المحيطة، لتخليصهم من تجاوزات ذوي النفوذ. وضعت أفلام الويسترن سفيان رضا في مأزق. جعلت منه إنسانا لامنتميا. مما جلب إليه أنظار كتاب التقارير، فوضع اسمه في عداد غير المرغوب فيهم، والمشوشين بعد أن رفض مسايرة التوجه العام لفترة السبعينيات الاشتراكية. والحقيقة أنه لم يقل عن نفسه إنه شيوعي، أو ماركسي، أو تروتسكي، كما كان شائعا. لم يرتد البذلة الماوية، ولا البذلة الشعبية الزرقاء ”تشنغاي”، وظل يرتدي سروال جينز، وقميص ذي مربعات، وبوتزا من الجلد على طريقة أهل تكساس، وفي الصيف يعتمر قبعة من تلك التي يشاهدها على رأس ”جون واين” في أفلام الوسترن. وعلى جدران غرفته لم يعلق صورة ماركس، ولا لينين، مثلما فعل جل أصدقائه في معهد الطب الذي كان يدرس به. علق بالمقابل صورا لممثلين أمريكيين. كما لم يتردد على المكتبة الحمراء بشارع ”شاراس” لشراء الكتب اليسارية التي يسميها رفاقه الكتب التقدمية القادمة من موسكو. كان زملاؤه يقتنون روايات روسية رخيصة، بينما ظل هو وفيا لمؤلفات روائيين أمريكيين دافعوا عن الفردانية. كان معجبا بأعمال ارنست همنغواي، وبروايات جيمس هادلي شيز، وجون شتاينبك، ودوس باسوس، وارسكين كالدويل. كان يدافع عن هؤلاء، وينفي عنهم تهمة الولاء لليسار والشيوعية التي يمقتها ويعتبرها بمثابة طاعون. كان يعتبرهم روائيين يدافعون عن الإنسان في صراعه مع القوى الرأسمالية المتطرفة التي تشكل خطرا على الليبرالية التي يؤمن بها. ومثل نيتشه كان يردد لرفاقه، وهو يدافع عن أفكاره بمقهى الطلبة: ”ليس الجهل هو الذي يشكل خطرا على الإنسانية، بل المعتقدات والتطرف”. عشق سفيان رضا أمريكا، وحلم بالعيش في كاليفورنيا. كاليفورنيا بالذات، مثلما كان يردد. اعتبرها أرض الخلاص، أرض الشمس والبرتقال. الجنة الموعودة. كان يشرح لأقرب أصدقائه أن النظام الوحيد في العالم الذي يكفل الحرية للفرد هو النظام الليبرالي لأنه يساير طبائع البشر، ويحترم ميلهم للملكية الفردية والعدالة. فلا العدالة لوحدها تضمن السعادة للبشر. ولا الملكية لوحدها كذلك قادرة على تحقيق ذلك. أما إذا اجتمعت الملكية الفردية والعدالة فذلك هو المثال الذي كان يُنشده.كان يعشق أفلام ”جون فورد” كثيرا. فقد كانت تنقله إلى الأراضي القصية التي تعيش على هامش التمدن، والتي تعطي الفرد القدرة على فرض ذاته بدون كابح. في أراضي الصحراء، حيث تنتشر مظاهر الخوف، والندرة، والجفاف، والرعب، والهامش... تلك الفضاءات الشاسعة لفرض الذات، والمقاومة الممكنة. وما كان يعجبه في أفلام فورد (فورد الرائع كما كان يقول عنه)، هو نهاية البطولة (كان ينظر من حوله ويجد الأبطال في  كل مكان، حتى سئم من كل تلك المظاهر)  في ذلك  الغرب المتوحش، الذي يعيش على وقع خشونة الحياة، والجفاف، والمخاطر.  كان يجد أن شخصيات فورد في بحث دائم عن البطولة وكل قيم النبل. يسعون إلى ذلك حتى في أخطر الأماكن، وعندما يقفون عند حافة الانهيار، وهم في قمة اليأس،  يستنهضون الهمة من أجسادهم المتعبة، فتبرز قيم الصداقة والدفاع عن المظلوم والموت من أجل فكرة. كان يبحث عن معنى لوجوده مثل شخصيات جون فورد، في عالم فرضت عليه قيما، كان يرفضها. كان يبحث عن حالة من التفرد الأخلاقي يختلف عما كان سائدا من حوله. رفض أن يكون شيوعيا، أو اشتراكيا، فلقي مصيرا حزينا. وهذا ما سهّل عليّ تحويله إلى شخصية روائية.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: