+ -

 عندما شرعت دول العالم في الإعداد لمؤتمر الأرض الذي انعقد في مدينة كوبنهاغن في 2009، تحت عنوان ”الفرصة الأخيرة”، سارعت دولة جزر المالديف إلى عقد مجلس وزرائها في عمق البحر! وأدرك الكثيرون ساعتها أن غاية هذا الاجتماع هي لفت نظر العالم وقادته إلى مخاطر الاحتباس الحراري الذي يهدد الكوكب الأرضى وساكنيه. لقد بعث هذا البلد الأسيوي الصغير، المكون من مجموعة من الجزر الصغيرة التي تقع في أسفل منخفض أرضي في العالم، بإشارة قوية للمجتمعين في كوبنهاغن لأنه أدرى بالأمر. لقد فقد عشرين جزيرة في إعصار تسونامي الذي ضرب بعض الدول في جنوب آسيا في 2004.ونجح مجلس الوزراء ذاك في ترميز مصير الكوكب الأرضي، إن لم تتغلب الدول الكبرى على أنانيتها وجشعها، واستمرت في ”تسخينه”، بينما لم تفلح المفاوضات حول المناخ التي جرت في ”وارسو”، عاصمة بلغاريا، في إيصال الفكرة التي أرادتها مثلما فعلت دولة المالديف. لقد اجتمع ألف مفاوض قدموا من مختلف أصقاع العالم في بناء جاهز مزود بنظام تدفئة أُعد لهذا الغرض وسط ملعب رياضي مغطى بالعاصمة صوفيا! لقد علق الفيلسوف الفرنسي ”ميشال سير” على تعثر هذا الرمز في إيصال المعنى بالقول أنه يسجل عجزا ديمقراطيا لأن الملعب كان خاليا من الناس، ونقصا في الذكاء لأن اللقاء كان خاصا بالعوامل التي ترفع منسوب الاحتباس الحراري في الفضاء، ومنها التدفئة الاصطناعية! لقد استلم منظموه، بسهولة، لإغراء خبراء الاتصال!إن السياسة ممارسة طقوسية محملة برمزية عالية تؤسس للسلطة وتشرعنها. وتقترح المعاني التي تعطى لسلوك معين. وتتجلى عبر الأفعال، وفي اللقاءات المختارة، والزيارات المحددة بعناية، والكلمات المختصرة والمكثفة التي تكشف عن عمق الأفكار والمساعي. فالمجتمع ساحة كبرى يمارس فيها البشر أدوارهم وفق قواعد منتظمة تأخذ طابعا طقوسيا. وبعض الشعوب والأمم، مثل الصين واليابان والهند، التي تملك من الأساطير والطقوس الروحية والدنيوية ما يفيض عن حاجتها، تنطبق عليها صفة المجتمعات الباردة، وفق منظور الباحث ليفي ستروس. فالتاريخ بالنسبة لها لا يعدّ مكونا أساسيا لفهم ذاتها فقط، بل لفهم محتوى الأشياء المقولة، أيضا. فهذه المجتمعات لا توظف رموزها في النشاط السياسي والحملات الانتخابية بالقدر الذي توظفه الولايات المتحدة الأمريكية التي تملك من الجغرافيا أكثر من التاريخ. فالمجتمع الأمريكي، الذي تنطبق عليه صفة المجتمع البارد يعانى من شحَّ الأساطير والملاحم. لذا يستثمر قدراته ومهاراته في مجال الفنون البصرية لتوظيف الأشياء البسيطة وتحويلها إلى أساطير ورموز، من خلال تشخصيها ومسرحتها. فالممثل شورزنبرغ خاض حملته الانتخابية في ولاية كاليفورنيا رافعا مكنسة. وكان يدوي بصوته قائلا: أريد أن ”أنظف السياسة في كاليفورنيا”. ولم يَرْتَدِ لهذا الغرض بذلة جديدة من الماركات العالمية ورابطة عنق، بل اكتفى بقميص عاد مثل غالبية الذين حضروا في مهرجاناته الانتخابية. وحرص أن يكون القميص بالكمّين حتى يستطيع أن يرفعهما ليشمّر على ساعديه.  فبدا شخصا قويا ومُصرّا على تنفيذ ما وعد به. وفاز في الانتخابات بفضل توظيفه المكنسة كرمز. وقد حاولت ”سيغولان روايل” أن  تستعمل الرمز ذاته لنيل ثقة مناضلي الحزب الاشتراكي ويرشحونها إلى الانتخابات الرئاسية التي جرت في السنة الماضية. فخاطبتهم في التجمع الانتخابي قائلة: إن البيت الفرنسي بحاجة إلى عملية تنظيف واسعة. ولا ضرر أن تُنتخب امرأة لتتولى هذه المهمة. لكن هذا التشبيه لم يرق للجميع. ولا يعزز، في نظر نساء الحزب، نضالهن من أجل تحقيق المساواة بين الرجال والنساء، بل يطيل عمر الصورة النمطية التي ”تسجن” المرأة في الشؤون المنزلية. أما رجال الحزب الاشتراكي، وهم الأكثرية، فاعتقدوا أن التشبيه المذكور يظهر سيغولان رويال كامرأة مطيعة تقنع بالمهام المنزلية التي أوكلت لها، بينما جاءوا لانتخاب زعيم وقائد سياسي يقودهم نحو الفوز، ويُكَبّر فيهم طموحهم. إذا، لم تحقق ”روايل” ما أرادت تبليغه. وهذا الشيء يبدو عاديا لأنه ارتبط بالمرأة. وقيل أمام جمهور متعاطف مع حقوقها.إن الرمز الذي نحج في الولايات المتحدة الأمريكية هو ذاته الذي أخفق في فرنسا. والسبب في ذلك يكشف، بعيدا عن مسألة الجنس أو النوع، عن نمطين مختلفين من الاتصال السياسي. فالنمط الأمريكي يرى أن فاعلية الخطاب السياسي تقوم على تشخيصه وتقريبه بصريا من مخيلة الناس. بينما يؤمن الفرنسيون أن الخطاب السياسي يرتكز على اللسان والبلاغة. فينتقي الكلمات والجمل ويُحشر بالشعارات الرنانة والحماسية دون التفكير في كيفية إخراجه بصريا في عصر يُقال فيه أن الصورة استحوذت على عملية الاتصال.www.nlayadi.com

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: