الجزائر والثورات العربية ونظرية الدومينو الخرافة الإعلامية المستهلكة

+ -

لعبت نظرية “الدومينو” في العلاقات الدولية دور الحجة الجيوسياسية التي بررت من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية سياساتها التدخّلية لاحتواء امتداد المعسكر الشرقي أثناء الحرب الباردة، واستعانت بها الإدارة الأمريكية لإقناع الرأي العام الأمريكي والدولي بالتدخل العسكري الأمريكي في فيتنام (1954-1975). وكان الرئيس الأمريكي داويت ديفيد ايزنهاور من أول السياسيين الذي طرحوا هذه الفكرة الجيوسياسية، في كلمة ألقاها خلال مؤتمر صحفي يوم 07 أفريل 1954. نظرية الدومينو أو نظرية التتابع هي عبارة عن أطروحة جيوسياسية تؤكد على أن ظهور أحداث معينة أو قيم ايديولوجية معينة في دولة ما يمكن أن يؤدي أوتوماتيكيا إلى تفشي الأحداث نفسها والقيم الإيديولوجية في الدول المجاورة للدولة، في إطار علاقة تأثير وتتابع تتسارع من خلالها وتيرة الانتشار بطريقة فائقة لا يمكن الحد منها أو احتوائها.المتتبع لمسار الثورات العربية التي بدأت في أواخر 2010 ومطلع 2011 يستنتج تأثير الدومينو في انتشار الاحتجاجات الشعبية من تونس إلى مصر إلى ليبيا واليمن وسوريا. حمى الثورات العربية مست الجزائر من خلال حملة الاحتجاجات التي عرفها الشارع الجزائري في 2011، والتي تم إخمادها عن طريق خطاب الرئيس بوتفليقة الذي وعد من خلاله الدخول بالجزائر في مرحلة إصلاحات عميقة كحل وحيد لاحتواء انتشار الثورات العربية في الجزائر.إصلاحات حقيقية أم خرافية، هذا ليس موضوع المقالة لأن ما يهمّنا في هذا الطرح هو إعادة ظهور وتفعيل علاقة الجزائر بالثورات العربية في إطار مقاربة “الدومينو” ثلاث سنوات من بعد عن طريق دعاية إعلامية مكثفة ومنظمة عرفتها الحملة الانتخابية لرئاسيات 2014، ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: هل إسقاط نظرية “الدومينو” على علاقة الجزائر بالثورات العربية في 2014 هو طرح منطقي وموضوعي أم مجرد دعاية سياسوية ونفسية روّجت لها وسائل الإعلام للاستهلاك الانتخابي؟وفي هذا الإطار يجب أن لا نخلط بين تأثير “الدومينو” والمخاطر الأمنية التي يمكن أن تهدد الجزائر جراء التقلبات الموجودة في دول الجوار، كخطر انتشار الأسلحة من ليبيا أو الأخطار الناجمة عن الحركات الإرهابية الناشطة في ليبيا أو على مستوى منطقة الساحل. وفي الواقع، التهديدات الأمنية الإقليمية عرفتها الجزائر منذ استقلالها بسبب المشاكل الحدودية مع دول الجوار أو بسبب نشوب نزاع إقليمي في المنطقة وهو قضية الصحراء الغربية، أو بسبب تحديات أمنية أخرى كتهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية، ما جعل من تمتين حزام الأمن الحدودي في إطار الحرص على تطويق الحدود الجزائرية أحد المبادئ الأساسية والأهداف المركزية للسياسة الخارجية الجزائرية. فعليه، إجابتنا على السؤال ستقتصر على صحة الفرضية المتعلقة بإمكانية انتشار عدوى الثورات العربية إلى الجزائر في إطار مقاربة “الدومينو”، وليس رصد للتحديات الأمنية التي تهدد الجزائر من الدول العربية المحيطة بها.إمكانية إسقاط نظرية “الدومينو” في إطار علاقة الجزائر بالثورات العربية تتطلب توفر شرطين أساسيين:أولا: على الجزائر أن تعيش المعطيات نفسها والظروف التي أدت لاندلاع الثورات في الدول العربية المجاورة كسوء الأحوال المعيشية والركود الاقتصادي وانتشار الفساد وعدم نزاهة العمليات الانتخابية والتضييق الأمني والسياسي والإعلامي، زيادة على استعداد الشعب معنويا ونفسيا على القيام بثورة شعبية.ثانيا: إثبات وجود تأثير “الدومينو” بين الجزائر والدول العربية المجاورة، من خلال تحليل أهم الأحداث والمحطات التي عرفتها الجزائر في مسارها التاريخي.فيما يخص الشرط الأول، هناك خطابان أساسيان في المشهد السياسي الجزائري:المدافعون على النظام السياسي القائم منذ 1999 يؤكدون أن الجزائر تمرّ بمرحلة تحوّل ديمقراطي كبير، والحريات موجودة ومحفوظة، والانتخابات شفافة ونزيهة، والشعب يعيش رفاهية اقتصادية-اجتماعية كبيرة عززها الاستقرار، ما يستوجب استمرار النظام والحفاظ على الوضع الراهن. فحسب أنصار النظام البوتفليقي، الشرط الأول لتفعيل نظرية “الدومينو” في الجزائر غير متوفر، ما يدل على وجود مفارقة واضحة في هذا الإطار لأن هؤلاء المدافعين عن استمرارية الوضع الراهن وإيجابياته هم نفسهم من يحذر الرأي العام الداخلي من تأثير “الدومينو”.بالنسبة لخطاب المعارضة، الظروف التي تعيشها الجزائر هي سيئة ومتدهورة، ومن مظاهر هذا التدهور استبداد السلطة السياسية وغياب دولة القانون وعدم شرعية الانتخابات وسوء الأحوال المعيشية والتضييق الإعلامي والسياسي، زيادة على التبعية للمحروقات واقتصاد الريع. لعل هذه الظروف تبين أن الشرط الأول لتأثير “الدومينو” في الجزائر متوفر حسب طرح المعارضة، لكن هناك عامل حاسم غير موجود في هذا الإطار، وهو عدم استعداد الشعب نفسيا ومعنويا على القيام بثورة شعبية مقارنة بالدول العربية الأخرى لأن الشعب الجزائري مرّ بعشرية دموية تلقى خلالها حقنة تلقيح اسمها حقنة الخوف.فيما يخص الشرط الثاني، فتحليل أهم المحطات التاريخية التي عرفتها الجزائر لا يبيّن وجود أي مثال عن تأثير “الدومينو” بين ما حدث في الجزائر وما حدث في الدول العربية المجاورة. فسقوط الجزائر في فخ الاستعمار الفرنسي في 1830 لم يتبعه سقوط أوتوماتيكي للدول العربية المجاورة في فخ الاستعمار الفرنسي في الفترة نفسها، وبينما تم إعلان الجزائر كقطعة جغرافية لا تتجزأ من التراب الفرنسي خضعت الدول العربية الأخرى التي تعرضت للاستعمار الفرنسي فيما بعد الى نوع آخر من الاستعمار وهو الحماية، الوصاية أو الانتداب. وكان مشوار نيل استقلال الجزائر شاقا ودمويا عن طريق حرب تحريرية كبرى مقارنة بالدول العربية الأخرى التي لم تعرف المسار نفسه، وحينما ثار الشارع الجزائري في 05 أكتوبر 1988 لم يتبعه اهتزاز أوتوماتيكي لشوارع الدول العربية، وحينما دخلت الجزائر في اقتتال وحراك دموي خلال سنوات التسعينيات الدموية والسوداوية لم يتبعه انتشار لظاهرة التقتيل والإرهاب في الدول العربية المجاورة، ما يؤكد عن عدم وجود حالات ومحطات تاريخية حاسمة تم خلالها انتشار الأحداث والظروف من وإلى الجزائر في إطار العلاقات الجزائرية-العربية على مر التاريخ الحديث والمعاصر.فعليه، تطبيق نظرية “الدومينو” في إطار علاقة الجزائر بالثورات العربية غير وارد وغير ممكن، بسبب عدم توفر الشروط اللازمة لإحداث تأثير “الدومينو” في هذه العلاقة، ما يؤكد أن هذه المقاربة استعملت من قِبل بعض الأوساط الإعلامية والأكاديمية والسياسية في إطار دعاية انتخابية ونفسية هدفت لتغذية خطاب الخوف والتخويف الذي عرفته الظروف المحيطة بانتخابات 17 أفريل 2014، ما سمح بتبرير تمرير العهدة الرابعة بحجج وهمية، افتراضية وخرافية.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات