+ -

اتهمني البعض بالولاء للفرانكوفيلية، بعد أن قرأوا مقالي الأسبوع الفارط، حول “التقليديين”، فأدركت أن أذهان هؤلاء محشوة بفكر أعمى يخضع لمنطق أرسطي يستنتج أن الحداثة جاءت على ظهر سفن حربية استعمارية، فهي تعني بالتالي ظاهرة وافدة غازية.ولهذا التفكير السطحي والتبسيطي جذور تمتد تاريخيا إلى المرحلة الاستعمارية، حيث كان أنصار التقليديين ينعتون المستنيرين بالعبارة التالية “المتُورني”، بمعنى المنقلب على أصله وملته ودينه. وانتشرت عبارة “المتُورني”، في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، إلى درجة أن كل من ارتدى بذلة ووضع ربطة عنق، أتهم من قبل التقليديين بالخيانة والولاء للاستعمار. وكانت المنظومة الاستعمارية نفسها ترتاب من هؤلاء المتنورين، بعد أن أدركت الخطورة التي يشكلونها على وجودها، باعتبارهم أصحاب فكر عقلاني،  فكانت تشجع التقليديين على مهاجمتهم والحط من قيمتهم.واليوم نجد أن “التقليديين الجدد” (والغريب أن بعضهم يأخذون القشور ويتركون اللباب، أي أنهم يرتدون البذلات ويضعون ربطات العنق، لكنهم عاجزون عن إدراك روح العصر) تتحكم فيهم عقدة وحالة مرضية أوجدتها الوضعية الاستعمارية، مفادها الاعتقاد الجازم بأن من يدعو للتحضر والتقدم والتطور مرتبط ميكانيكيا بفرنسا. وهذه عقدة مدمّرة، انغرست في هؤلاء التقليديين الجدد، وجعلتهم يرتابون ويتوجّسون من التطور والحداثة، لاعتقادهم أنها تعني فرنسا أو الاستعمار. وهنا تكمن قوة المنظومة الاستعمارية، وهي منظومة فكرية تستند إلى إيديولوجية توجيع العقول وزرع العقد، حيث جعلت البعض منّا يتوهّم أن حياتنا من غير المُعمر وما يحمله من قيم متطورة تعني الخراب والضياع والفوضى والعودة إلى القرصنة وغيرها من مظاهر الخراب التي كانت منتشرة قبل أن تطأ الأقدام السوداء أرضنا. وإن نجح المُستعمر في غرس وترسيخ هذا الاعتقاد لدى البعض منا، فقد ساهم في جعل قيم التطور والحداثة محل شك وريبة، ليحكم علينا في البقاء في بوتقة التخلف.وقد لمست هذا التصور الميكانيكي الذي يربط “التطور بالفرانكوفيلية”، عندما كتبه بعض من هؤلاء المصابون بالعمش والقارئون بالمقلوب، إذ أراد أحدهم أن يذكرني بأن الجنرال ديغول كتب في مذكراته أن “فرنسا لن تتخلى عن الجزائر، وسوف تبقى ترتبط بها بواسطة أزلام لها”. وهذه الفكرة بالذات هي التي كوّنت لدى هؤلاء عقدة الخوف والريبة والشك والنفور من التطور، والحداثة التي أدافع عنها منذ ربع قرن، وهو عمر خوضي غمار الكتابة، إلى درجة أن كل من تكلم الفرنسية (لأن الحظ لم يسعفه لتعلم العربية، مثلما لم يسعف الحظ كثير من مفجري حرب التحرير) وطرح أفكار عصرية، تروم إخراجنا من التخلف والتكلس والقروسطية الضاربة  جذورها، حتى يُتهم زورا بالفرانكوفيلية والخيانة العظمى والولاء لفرنسا.وينتج هذا التصور الميكانيكي، التبسيطي والسطحي وضعية مخيفة هي على شكل كابح يقف في وجه الأفكار العصرية. وهذا الكابح نجده يقمع ويُخون باسم الأصالة تارة، والدين تارة أخرى. وفي المحصلة، فإن الاستعمار نجح في أن يغرس فينا عقدة كره التطور، والتوجس منه. والأخطر من كل هذا جعلنا نتوهم أنه هو الحداثة، هو التطور، وهو روح العصر. وأننا إذا اخترنا مدرسة عصرية وحداثية، فذلك يعني أننا فرانكوفليين، وأبناء فرنسا، فقط لأن الجنرال ديغول تحدث عن “وجود الأزلام”، فنتحرك وفق هذه العقدة المدمرة، تحركا مدمرا للذات، ونصب جم غضبنا على رموز الحداثة، أي نقتل الجانب العقلاني والمستنير فينا، حتى نتوه في الظلمات.أعتقد أنه حان الوقت، لكي نتخلص من فكرة تخوين من يدعو لروح العصر، ولمدرسة متفتحة عصرية، ترتشف من العقلانية كؤوسا عديدة، وليس مجرد جرعات قليلة، ونلتفت للتراث من زاوية العقل والنقد وليس من زاوية النقل. 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: