+ -

 تزخر الجزائر بلا شك بمناجم من الذهب والألماس التي لم تكتشف بعد، والتي قد تمنحها بريقا أبديّا في التاريخ، لأن ما تنتجه لا يقدّر بثمن ولا تصنع منه الحلي الجميلة، بل تصاغ منه الحضارات العظيمة.إن هذه المناجم هي مدننا الجزائرية التي تحتوي على عدد كبير من المواهب الفنيّة والأدبية، غير أن الظروف حالت دون اكتشافها، خاصة في المناطق المهمشّة البعيدة عن المراكز الكبرى، تلك التي تعاني من غياب شبه تام لفرص الخروج من العتمة إلى الضوء.ولعل هذا الأمر سببّ لمجتمعنا حالة من اليأس العميق، ودفع غالبيته إلى الاعتقاد بأن البلدان الأخرى، وبشكل خاص في المشرق، تملك العصا السحرية التي لا نملكها، والتي تجعل منهم مصدّرين للفنون بكل أنواعها، من الغناء إلى السينما إلى الدراما. كما خلق حالة من الافتتان بكل ما يأتي من هناك على حساب إهمال ما يوجد هنا.إن العصا السحرية موجودة فعلا، ولكن اسمها مختلف قليلا، إذ تسمّى “التسويق”، وتعطي القدرة على تسويق أي منتج فني مهما كان بسيطا على أنه فلتة من فلتات الزمان، وتحويل أي مطربة بإمكانيات عادية جدا إلى “ديفا” يسهر الخلق جرّاها ويختصم.لكن غياب تسويق المنتج الفني والأدبي الجزائري هو مأساتنا التي قد لا ندرك حجمها، لأنها ليست مجرد غياب للجمال وتهميش له، بل هي بشاعة تنعكس بشكل كامل على الشارع الجزائري، ذلك أن اختفاء المنتج الجيد وبقاءه في الظل سيجعل الفرصة سانحة للمنتج الرديء كي يأخذ الصدارة، وهذا سبب انتشار موجة من الأغاني الهابطة والأعمال السينمائية والدرامية السيئة، التي لا تعكس قدراتنا ولا ثقافتنا ولا تاريخنا ولا تقاليدنا.فمن جهة، أهملنا تسويق تراثنا الجميل بكل ما فيه من كنوز: أهملنا الأندلسي والحوزي والمالوف والأغاني الأمازيغية والبدوي والايمزاد، ومن جهة أخرى أهملنا تسويق مواهبنا الحقيقية من خلال الإعلام الداخلي قبل الخارجي. إذ لا يتم الترحيب بالجزائريين في الإعلام إلا إذا نجحوا في الخارج، في حين حينما كانوا هنا لم يكن أحد يهتم بما يقدمونه.إنني لأتساءل أحيانا، كم موهبة عظيمة ضاعت سدى ولم تستطع أن تصل إلى المكانة التي تستحقها؟ كم صوتا جميلا أكله الصمت؟ وكم أغنية تراثية سقطت في بئر النسيان؟ ولا أشك مطلقا أن العدد كبير ومخيف، ولا أشك مطلقا أن مصير هذا البلد سيختلف تماما لو تم التسويق جيدا لمواهبه، من أجل أن يفرض هويته الأصلية على العالم، ومن أجل تحسين صورته السياحية والاقتصادية التي تتأثر بشكل مباشر بمستواه الفني.لأن الفن هو مرآة الشعوب التي نرى من خلالها المستوى الحقيقي للثقافة وللمجتمع وللمستقبل، ولابد من مراجعة ما يمكن مراجعته لضمان الحفاظ على هذا البلد في ظل التطورات العالمية، إذ على من يريد أن يبقى لامعا أن يصنع ثقافته من الذهب الحقيقي الذي لا يصدأ على مر العصور ولا تقل قيمته، مهما غمرته مياه التاريخ بانتظار أن تنتشله العصا السحرية.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: