أغرب علامة استفهام في الجملوكيـــة؟!

+ -

 هناك سؤال أساسي وجوهري، يفرض نفسه بإلحاح على كل نوفمبري أصيل، كلما أمعن النظر في مخزية الجزائر المعاصرة. ففي نهاية كل عهدة من عهدات الجملوكية يعود هذا السؤال، وترتسم آخره أكبر علامة استفهام مقلقة، منهكة، جارحة في صميم الكبرياء النوفمبري.. دون جواب ودون أمل.. فهذا السؤال ليس خاصا باكتمال الجملوكية بـ«وصفانها” السبعة، والثامن الذي يحرك وراء الستار، بل هو كاللحن المتكرر في السمفونية الجزائرية المشلولة بأوامر كيدورسية يأتي بعد كل مقطع مجهض من مقاطعها ليعيد المغزى الأزلي، كما يعيد الكورس في التراجيديا الإغريقية حكم القدر الثابت على المصير البشري الفاجع.السؤال باختصار: لماذا لم تحسم الجزائر الجريحة بالمحنة الوطنية مصيرها، وتتخلص من كابوس العنف المبرمج الذي يكاد يعصف بها، لولا اللحمة الوطنية التي كانت مكسوة بالبيان النوفمبري، الجامح لكل القوى الوطنية الأصيلة، والمتأصلة في التربة الجزائرية المروية بأزكى الدماء؟ وإذا كانت الشعوب الحية التي مرت بتجارب مريرة، ثم خرجت منها واثقة من نفسها، وملتحمة وصلبة مستوعبة درس المحنة، وما أكثر هذه الشعوب في التاريخ الحديث والمعاصر.. بينما الجزائر العابث بها من أطراف مدسوسة، غير أصيلة في التربة الجزائرية، ما إن تخرج من محنة إلا وتدخل في محنة أخرى أقسى وأمرّ، وتخرج من إجهاض لتقع في الآخر دون نتيجة ثابتة محققة. لماذا؟ وكيف؟ وإلى متى؟ ومن المسؤول؟هذه هي مآسي القلق الحقيقي، وهذه هي الأسئلة التي تخصّنا، وهل لنا الجواب الخاص عن كل علامة استفهام مقلقة؟ ولا يخفى على المتتبع للمحنة الجزائرية، كما لا يخفى أن من واجب كل شعب تعرّض لمثل هذه المحنة، كائنا ما كان، أن يجيب عن هذه الأسئلة؟ لكن ما قد غاب عن ذوي العاهات الخُلقية والخَلقية هو أن أي شعب لا يكون شعبا بحق حتى يرتقي بالجواب عن أسئلة محنته إلى رتبة الاستقلال بها، وذلك مصداقا لقول مالك بن نبي: “إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يستطع أن يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية”، أي التحولات العولمية المتصهينة التي تريد أن تهدد كياننا التاريخي والحضاري، عن طريق جملوكية انسلخت من كل القيم، وأدت مهمتها على أحسن ما يرام، إرضاء لأجنحة المكر المتصهينة.فماذا حدث والجملوكية تهدد كياننا؟ هل نقول إن الهزيمة وصلت إلى الوجدان والفكر، وأن الأمة النوفمبرية انهزمت من الداخل؟ وأن الجملوكية استعمار من الداخل، بإيعاز من الخارج؟ هذا عار علينا وخزي ومذلة، على أمة ملحمية قهرت الأعداء البارحة، وردّتهم على أعقابهم، وتملك من عناصر القوة والثبات، ما حيّر الأعداء وأدهش الأصدقاء، عار أن يقال عنها إنها انهزمت– نهائيا- أمام مصحة المشلولين التي أنجبت لنا ملكا وهو في أرذل العمر.قد تبعث هذه التساؤلات على استنكار الأغلبية التي ميّعتها الجملوكية، واستغراب البعض الذي هو جملة اعتراضية بين الأغلبية والجملوكية، وذلك لأسباب نذكر أبرزها، أحدها أن الأمة (النوفمبرية) متى نظرنا إلى حالها منذ أن علب إلينا ملك من مخابر أجنحة المكر، وبمباركة من مفسدي الداخل، يبدو أن هذه الأمة إلى الوهم أقرب منها إلى الحقيقة، والثاني أن هذه الأمة ولو أنها أصلا مسؤولة عما وصلت إليه من ذل ومهانة في ظل هذه الجملوكية، فإنها عاجزة عن استرجاع المبادرة وحمل الأمانة، لأنها أصيبت (بفقدان المناعة) من كثرة التمييع، والثالث أنها مازالت تتعرض لعمليتي إفراغ منسق إحداهما نهب خيراتها المادية، والأخرى محو قيمها الروحية بنشر الفساد بين أبنائها عن طريق توزيع الريع وشراء السلم الاجتماعي، وقد دخلت هذه الظاهرة الثانية طورا خطيرا لم يسبق له نظير.فالجملوكية التي اجتاحت الجزائر في بداية القرن الواحد والعشرين تحت شعار مدمر (كسر الطابوهات) لا تسمح بنمط آخر للوجود، والحق الوحيد الذي تعترف به للوجود هو الاستهلاك والاختلاس، لا حق الاختلاف. وبذلك تكون الجملوكية هي نكبة في تاريخ الجزائر المستقلة، لأنها لوثت قيمنا الوطنية، وإن تصفية الجملوكية من أرضنا النوفمبرية يقتضي تجديد وعينا لمواجهة خبثها المستقوي بالقوى الخارجية الماكرة.لقد دقت ساعة الحقيقة، وجاءت وقفة الحسم على مفترق (الجملوكية)، التي اغتصبت النوفمبرية، وأذنت وقفة الجدارة بين الوجود واللاوجود، بين الأمة واللاأمة. الوجود في الزمان، والتاريخ، والحضارة، أو اللاوجود في الما وراء – تحت الزمان ودون الكينونة أو خارج– التاريخ، وخارج الدائرة الحضارية. فمقاومة الجملوكية لا تصنع بالاندفاع في دروب سبق السير فيها، بل بفتح دروب جديدة، تعيد للأمة النوفمبرية وعيها ووزنها في التاريخ، وفي العالم العربي الإسلامي. ومقاومة هذه الجملوكية لن تنجح إلا إذا كانت كل القوى النوفمبرية بأطيافها الثلاثة: الوطنية والعلمانية والإسلامية، مجتمعة في حركة تكاملية، وهذه الحركة في اتجاه تعبوي صاعد ومتماسك، لأن المعركة مع الجملوكية معركة حضارية، ومن أجل البقاء.جامعي وباحث

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات