+ -

 الصحف الفرنسية التي توصف باليمينية المتطرفة، لا تحب وزيرة العدل الفرنسية ”كريستين توبيرا”، بل تكرهها للون بشرتها، وهذا أمر معروف. لكن أن تذهب إلى حد وصفها بالقردة، فهذا لم يكن متوقعا قط. بالفعل، لقد افتتحت صحيفة ”مينيت” الفرنسية صفحتها الأولى، يوم 13 نوفمبر 2013، بالعنوان التالي: ”ماكرة مثل قرد، توبيرا تجد موزتها”، وتمادت في استعارتها الشاتمة في صفحاتها الداخلية تحت عنوان ”لا نُعَلّم القرد المسن التكشير”. وقد أثار هذا الشتم الجارح والعنصري جدلا واسعا في فرنسا التي يؤكد دستورها أن الجمهورية لا تميّز بين مواطنيها على أساس اللّون والعِرق والأصل والدين. إن موجة العنصرية ضد العرب والأشخاص الملونين، مثلما يقال، لم تقف عند هذه الدولة وحدها، بل اجتاحت العديد من الدول الأوروبية. ففي إسبانيا، مثلا، رُمِي اللاعب الإسباني بنادى برشلونة ذي الأصول البرازيلية، داني ألفيز، بموزة وهو فوق أرضية الملعب لتذّكره بلونه الداكن، فأكلها. وقد أثار سلوكه هذا موجة واسعة من التعاطف معه، خاصة بعد أن غردت رئيسة البرازيل، ديلما روسيف، بتغريدة في موقع شبكة ”تويتر”، تنص على أن داني دلفيز رد بشجاعة وقوّة على العنصرية في الرياضة. وقد تحوّلت هذه الموجة إلى حركة واسعة مناهضة للعنصرية سُميت ”آكلو الموز”.إن حادثة الموز التي انتقلت من فرنسا إلى إسبانيا، استفزت صديقي الذي يسخر من كل شيء حتى من نفسه، فخاطبني سائلا: ألم أقل لك إن البشرية تنفض يدها من نظرية ”داروين” التي ترجع أصلنا إلى القردة؟ فالقوم الذين يقذفون غيرهم بالموز يقولون ضمنيا إنهم ليسوا ممن تشملهم نظرية داروين! بعيدا عن المزاح، يدعو مائيل لو غاريك، أستاذ الفلسفة، إلى التعاطى بجدية مع حادثة قذف الموزة، فيقول: لا يمكن اعتبار هذه الموزة رمزا كالتحية النازية، على سبيل المثال. إنها نفاية سقطت في الأرض فالتقطها اللاعب داني ألفيز. فهذا اللاعب التقط شيئا ما كان له أن يسقط في ملعب كرة القدم. وهذه الموزة أقحمت العنصرية كمعطى ضمن المعطيات الأخرى التي ولجت لعبة كرة القدم. اللعبة التي أصبحت تتأثر، بشدة، بالتوترات التي تقع خارج الملعب. لكن هذا الفيلسوف لم يشر إلى كيفية التعامل مع الصحف التي تقذف الموز في الساحة السياسية. فهل يتم تجاهلها واعتبارها من تفاصيل الحياة اليومية التي يعاني منها الأجانب أو المنحدرون من أصول غير أوروبية حتى لا تعيق اندماجهم في المجتمعات الأوروبية؟ وهل من الأفضل التعامل معها بمنطق ألكسندر المقدوني؟ لقد منع هذا الأخير جنوده من استهلاك الموز عندما غزا الهند لاعتقاده أنه ثقيل في الهضم ويضعف طاقتهم. وإن كانت حركة ”آكلو الموز” تشاطر إسكندر الرأي في أن الموز عسير على الهضم سواء في السياسة أو الرياضة، فعلماء التغذية يسمونه ملح الذكاء، لامتلاكه قدرا كبيرا من مادة الفسفور، وهذا ينسف حجة العنصريين.وترى العديد من الأساطير الآسيوية أن شجرة الموز شجرة الجنة، لأن أوراقها تستطيع أن تغطي موطن الإثم في جسد الإنسان، الذي ارتكبه في حياته. بيد أنها لم تخبرنا هل تستطيع قشور الموز أن تغطي إثم العنصرية في المجتمعات المعاصرة؟ لقد جعل ”بوذا” شجرة الموز رمزا للهشاشة. وهو محق في ذلك، لأن الموز الذي تقذف به الصحف العنصرية قراءها، يكشف عن حالة من الهشاشة والقلق والخوف من الآخر في بعض المجتمعات الغربية التي تعاني من ويلات الأزمة الاقتصادية. ألم تولد النازية من رحم الأزمة الاقتصادية العالمية؟قد ننسى العنصرية وقصة الموز هذه، بعض الوقت، لأن الخطاب عن وسائل الاتصال الحديثة يُنَوّمنا بالقول المجتر: إننا نعيش في قرية عالمية قربت بعضها ببعض، وعرفتنا إلى بعضنا. لكن بعض الصحف، سامحها الله، تذكرنا بها. بل تقصفنا، كل مرة، بما تملك من موز. لكن هذا القصف الذي يقصد به الإساءة لأبناء المستعمرات وكل الشعوب التي يقال عنها إنها ملّونة، يشتم كل الذين جمعوا الموز وأقاموا له جمهوريات. هذا ما يخبرنا به تاريخ شركة الفواكه المتحدة التي بدأت في احتكار إنتاج موز في دول أمريكا الجنوبية وتسويقه منذ نهاية القرن 19. ومن يقرأ كتاب ”غارسيا ماركيز ”عشت لأروي”، لا يسأل عن مذاق الموز. ” فمأساته في منطقة سنتا مرتا بكولومبيا التي يسرد تفاصيلها، قد تصحح ما ترويه بعض الأساطير عن قاذفيه وتؤكد أن الموز ظل رمز العار منذ القرن 19 إلى عصرنا الحالي.   

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: