الليفياتان: قصة الغرب مع وحش التوراة

38serv

+ -

داحس أو داعش، القاعدة في بلاد الرافدين أو المشرق أو المغرب، وكذا النصرة والأنصار وغيرها وغيرها، بما فيه مجالها الحيوي الربيع الدموي وتفاعلاته، حضر في ذهني كل ذلك دفعة واحدة وأنا أشاهد حال العراق الذي تفككت فيه الدولة ولم تبق سوى آثارها القديمة والجديدة، تنعق من حولها الغربان. إنها آثار ثقافة الليفياتان التي حددت طبيعة الرد على هجوم 11سبتمبر، والليفياتان هو الوحش البحري الذي ورد الحديث عنه في التوراة، فاتخذه الفيلسوف السياسي توماس هوبس رمزا للدولة المنشودة، وعنوانا لكتابه الضخم الذي يعتبر مرجعا للفلسفة السياسية منذ القرن السابع عشر، وقد اعتبر هوبس ذلك الوحش نتاجا للحيلة الإنسانية والفن الإنساني. أما من حيث حياته وعناصره المركبة، فإن السيادة هي نفسه الاصطناعي والحكام هم مفاصله والمكافأة والعقاب هي أعصابه والمستشارون ذاكرته، والقوانين عقله وإرادته، والوئام صحته والحرب الأهلية موته، وتحوز الدولة الوحش على هذه السلطات عبر العقد الاجتماعي الذي يتحول المجتمع من خلاله من حالة الفوضى وحرب الجميع ضد الجميع، إلى حالة السلم والأمن الذي يوفره الليفياتان الذي يسلم له البشر الطبيعيون وبشكل لا رجعة فيه حقهم العام، ومقابل ذلك يدافع الوحش الميكانيكي عن مصالحهم وملكياتهم، فيحافظ على السيادة والأمن، ومن ثم يصبح بيده وفقا لتلك الصلاحيات سن القوانين وتحقيق العدل وتحديد المصلحة والدفاع عنها إلى غاية تحوله إلى سيد الملكية والآراء والمذاهب والدين، مقتفيا في ذلك خطى مكيافيلي في الأمير، ولكن مختلفا عنه في كونه يقدم السلطة كقوة مجسدة في مؤسسة، أما البشرية فإنها عند هوبس غابة بالنسبة إلى العلاقات بين الدول ذات السيادة لعدم وجود سلطة عليا فوق هذه الدول، ومن ثم تصبح الحياة الدولية حربا دائمة بين مجموعة من الليفياتانات، ووفقا لهذه المفاهيم نشأت وتطورت الدولة في الغرب، ووفقا لهذا المنطق، الذي فعله علميا ومعرفيا المنظر الأمريكي الشهير في العلاقات الدولية هانس مورغانتو عندما عرف المصلحة بالقوة والقوة بالمصلحة، تتعامل القوى الدولية، فالليفياتانات أي الدول لا تجد أمامها إلا القانون الطبيعي وليس لديها كما يقول هوبس من محكمة إلا في الضمائر، وبالتالي لن تكف عن أن تكون ذئابا فيما بينها توجهها المصلحة وغريزة الكسب العقلانية. لقد أثرت هذه الطروحات في كل تجارب بناء الدولة في أوروبا حتى بات الليفياتان يسمى مرجعية الدين المدني في أوروبا، لاسيما أن ظهوره قد تزامن مع إرهاصات انبثاق الدولة منذ مؤتمر وستفاليا 1648، مجسدا بذلك النظام المعرفي النيوتوني الذي يعتبر أن كل شيء قابل للقياس والتكميم بما في ذلك الظاهرة الإنسانية، فالليفياتان يجسد بناء العلاقات على أسس آلية خاضعة لمبادئ الفردانية والمادية والمنفعة والعقلانية. إنه النظام المعرفي الذي ينتمي إليه ألكسي دي توكفيل مؤلف الكتاب الذائع الصيت ”الديمقراطية في أمريكا”، والذي انتصر فيه للحرية ضد الاستبداد، وفيه ساند النظم العادلة وحرية التعبير ودولة القانون، ولكن يبدو أن هذه الأفكار تتوقف عند عتبة ما هو خارج الغرب، حيث إن هذا المفكر وهو وزير خارجية فرنسا من أشد المساندين بل الآمرين والمنظرين لسياسية العنف التي انتهجتها فرنسا ضد الجزائر، وتطفح مقالاته التي كتبها أثناء زيارته للجزائر بالعنصرية والحقد، ومن بينها ما جاء فيها ”أعتقد أن واجب الحرب يملي علينا أن نخرب البلد بتدمير المحاصيل الزراعية وبالقيام بهجمات يلقى من خلالها القبض على الرجال والاستيلاء على الماشية وتدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية، يجب تدمير كل شيء” يعتمد عليه الأمير عبد القادر، هكذا يقول صاحب الديمقراطية في أمريكا. أما فيكتور هيجو شاعر الحرية وصاحب رائعة ”البؤساء” فكان يعتبر الغزو الفرنسي أمرا يشعر بالسعادة والفرح مبررا ذلك بقوله ”إنها الحضارة تكتسح البربرية.. نحن إغريق العالم وعلينا أن نضيئه”، إنها ثقافة الليفياتان التي تشبع بها الغرب منذ انبثاق الدولة الحديثة، رغم وجود بعض الاستثناءات النادرة على مستوى الفلاسفة مثل انتوني جيدنز، صاحب الاختراقات النظرية المتميزة والمؤثرة في علم الاجتماع ومؤلف الطريق الثالث والمرشد الخاص لتوني بلير في بداية حكمه، والذي حاول عبر اقتناعه بأفكاره مداعبة الليفياتان الوحش، لعله يتحول به إلى حيوان أليف، ولكن سرعان ما كشر وحش التوراة عن أنيابه، فتراجع بلير بل تغول تلبية لمطالب الليفياتان أيام غزو العراق الذي يمثل اليوم مجرد بقايا دولة. في ظل هذه المعطيات يبدو جليا أن الإشكالية في المسلمات التي قام عليها النظام المعرفي الذي أنتج الليفياتان وثقافة وحش التوراة الذي يعتبر عبره هوبس الإنسان عقلا كإجراء عمليات الحساب، فعقل الإنسان عند هوبس لا يزيد دوره عن جمع وطرح وإحصاء حسابات المصالح والدولة آلة ونموذج ميكانيكي دوره تحقيق الأمن في الداخل ومحاربة الليفياتانات ووحوش التوراة في الخارج تحقيقا للمصلحة، هذا إذا كان الخصم ليفياتانا، فكيف إذا كان الطرف الآخر مجرد سمكة لطيفة؟ وكيف إذا لجأت السمكة ذاتها إلى الليفياتان ممثلا في قوة أو قوى دولية أو نيتو أو تحالف قوى مجسدا في الليفياتان؟

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: