+ -

بيت الحكمة العراقي، لست أدري لماذا انصرف ذهني إليه وأنا أقرأ قرار الرئيس الأمريكي إرسال 300 خبير عسكري إلى العراق لمساعدة القوات العراقية على إنهاء القتال الطائفي هناك، ربما لتساؤلي عما يمكن أن يفعله الخبراء في مواجهة فورة فتن غلت مراجلها فانفجر بعضها والباقي مقبل على ذلك، بفعل مغالطات كبرى تدور حول مفاهيم تتعلق بالعقائد والمقدس، وربما لأن الوقود المعنوي للخبراء والمتمثل في الأهداف الاستراتيجية والمصالح العليا للولايات المتحدة لا يصمد أمام دوافع عقدية مهما كانت مغلوطة للتنظيمات والجماعات والميليشيات المسلحة وغيرها ممن يحلم بمملكات الطوائف ودويلات الشيع والفتن، تماما كما لم يعن الفارق شيئا بين نصف مليون قتيل مسلم و4500 قتيل أمريكي، أما بيت الحكمة في بغداد فربما هو مزيج من نوستالجيا الماضي القائمة على مفخرة أن بيت الحكمة رمز الحضارة الإسلامية كان يضم المسيحيين الشرقيين والفرس والعرب وجميع الأديان والأعراق التي كانت الحكمة ضالتها، فضلا عن آثار زيارة للعراق عام 2003 زرت فيها بيت الحكمة على أثر زيارة لمقام عبد القادر الجيلاني مقر الحكمة، وملجأ العامرية رمز خطأ الخبراء العسكريين الأمريكان. سؤال المقال إذن يبحث في المسافة الفاصلة بين الخبرة والحكمة، ولعل فيلسوف الدولة (التي تبحث عنها داعش وغيرها) الألماني هيجل أكثر من اقترب من الجواب في تحديد تلك المسافة بقوله ”الحكمة هي أعلى المراتب التي يمكن أن يتوصل إليها الإنسان، فبعد أن تكتمل المعرفة ويصل التاريخ إلى قمته تحصل الحكمة، وبالتالي فالحكيم أعلى شأنا من الفيلسوف، والحكمة هي المرحلة التالية والأخيرة بعد الفلسفة، إنها ذروة الذرى وغاية الغايات”. ولهذا تعرف الفلسفة بأنها ”حب الحكمة وليس الحكمة”. لا أحب أن أتحدث في هذا المقال عن الاستراتيجيات والحسابات الجيوسياسية والقوى الإقليمية والدولية وآبار النفط وموازنات المصالح وعن الحروب القذرة، ولا حتى عن الحروب العادلة رغم التخصص، لأن لا شيء من ذلك يجدي أمام طوفان الفتنة حتى وإن قام البنتاغون بعملية تقطير لعصارة أدمغة أعظم خبرائه، لذلك فإن أوباما سيختزل في نهاية المطاف كل الطرق ويحتفظ بحماية طريق أوحد وهو المؤدي إلى آبار النفط، ومن ثم فإنه لا جدوى من تحليل أو تفكيك أو تركيب أو توظيف النظريات والاستراتيجيات الخاصة بالحروب والصراعات على أثر النتائج الماثلة أمامنا في المنطقة. لذلك نتحدث عن الحكمة باعتبارها الحل الوحيد الذي من شأنه أن يقضي على الفتنة، فالحكمة إذن تغلب الخبرة في مفهومها المطلق، لكون الخبرة تقوم على العلوم والمعارف والدراسات والبحوث المستمرة وتراكم العمل الميداني، بينما الحكمة هي تفاعل كل ذلك ممزوجا بروح بصيرة مصدرها القلب الذكي، في حين أن الخبرة مجردة من ذلك، الأمر الذي نستشفه من قول الله تعالى في القرآن الكريم ”ولا ينبئك مثل خبير” (فاطر) التي جاءت في سياق الكشف عن معلومة مرتبطة بالمعرفة وكذا الآية الكريمة ”الرحمن فاسأل به خبيرا”(الفرقان) التي وإن كان يقصد بها نفسه الكريمة، ولكنها تأتي في سياق تبليغ المعلومة النابعة من المعرفة عن العلم والمعرفة للخبير، أما عن الحكمة فيؤكد الله عز وجل أنه ”يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب” (البقرة)والداعشية باعتبارها ظاهرة دينية أو طائفية عسكرية أو تاريخية، سمها ما شئت، وفقا لأهم العوامل تأثيرا في انبثاقها ومختلف التحولات التي مرت بها منذ انطلقت تحت اسم ”جماعة التوحيد والجهاد” إلى ”تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين” إلى ”الدولة الإسلامية في العراق والشام” وغيرها من التنظيمات ودويلات الأعراق والطوائف التي تحاربها، ما هي إلا نتيجة حتمية لتفاعلات تاريخية معقدة من انبعاث ميشيل عفلق إلى غاية قرار بريمر بحل الجيش العراقي وانبثاق الجماعات المسلحة والمليشيات وأيضا الدويلات، ولذلك فإن الحل لا يكمن في إعادة الشياطين إلى القمقم ولكنه يتمثل في القضاء على القمقم أي البيئة ونظام الفكر الذي تنبثق عنه هذه الظواهر، بالحكمة التي لم يعد يملكها المراجع وما يسمى بالعلماء الذين باتت تستهويهم لعبة الدين والسياسة من القائمين على صناعة فتاوى الدماء، ولكن من الذين يستوعبون قول الله عز وجل ”من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” (المائدة).إنها النفس الإنسانية الأهم عند الله من المراقد والمقدسات، أولم ينفخ فيها من روحه فباتت الأقدس؟ ومن يتجنى عليها فكأنه تجرأ على تلك الروح التي سرها عنده وحده سبحانه وتعالى. وفي ظل هذه المعطيات الصاخبة، ربما يكمن رأس الحكمة في مقولة عبد القادر الجيلاني ”كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعا للقدر، لا من يكون موافقا له”. وقد ذكر أهل العلم أن المسلم مأمور بأن ينازع القدر بالقدر من خلال دفع الشر بالخير.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: