هل تصالح سعيد سعدي مع التاريخ الرسمي بعد تخوينه لمصالي الحاج؟

38serv

+ -

 عادة ما يستغرب المؤرخ العارف بأساليب إنشاء الخطابات التاريخية من اندهاش البعض من تخوين مصالي من طرف ابن الشهيد عميروش وسعدي المتعاونين في مجال الكتابة التاريخية كهواة لا كأكاديميين، وخفي عن هؤلاء المندهشين بأنهما لم يأتيا بجديد، فهما يرددان ما يروّجه التاريخ الرسمي من قبل 1962 حتى اليوم حول مصالي.لا يمكن لنا فهم طروحات سعدي حول التاريخ إلا إذا عرفنا مساره التعليمي والسياسي، فسعدي خريج المدرسة الجزائرية ولقن تاريخا رسميا مثله مثل كل الأطفال الجزائريين في الستينيات والسبعينيات، لكن البعض من هؤلاء بقوا سجناء هذا الخطاب التاريخي الرسمي، والبعض الآخر منهم، خاصة الذين انخرطوا في النضال ضد أحادية النظام اكتشفوا خطابا تاريخيا آخر تروجه المعارضة، أي أمامنا خطابان تاريخيان كانا نتاج أزمة صيف 1962، أحدهما رسمي يروّجه الذين انتصروا في هذا الصراع، وأخذوا السلطة واستولوا على الأدوات الأيديولوجية كالمدرسة ووسائل الإعلام، ومقابله نجد خطابا تاريخيا آخر يروّجه المنهزمون في هذا الصراع، لكنه خطاب مقموع، فعلى المؤرخ أن يتحرر من كلا الخطابين لأنهما غير موضوعيين، ويغلب عليهما التزييف والتزوير، لأنهما مرتبطان بالصراعات السياسية حول السلطة، ويجب على المؤرخ أن يقف منهما المسافة نفسها، ويقوم بتفكيكهما للاقتراب من الحقيقة، وما تهجم سعدي على بن بلة - بومدين إلا لأنه تأثر بخطاب المجاهدين المعارضين الذين انهزموا في 1962، لكن سعدي يردد نفس أطروحة النظام المخونة لمصالي، لأن كلا الخطابين التاريخيين المعارض والرسمي منبثقان كلاهما من خطاب جبهة التحرير الوطني التاريخية أثناء الثورة، ويرددان نفس الطرح، ولهذا اتفق سعدي مع الخطاب الرسمي حول مصالي، هذا ما يجرنا للتنبيه إلى وجود خطاب تاريخي ثالث مغيب بشكل أعمق بكثير، ويمكن تصنيفه ضمن المسحوق تماما، وهو الخطاب التاريخي للمصاليين أثناء الثورة وبعدها، وأركز على كلمة الثورة لأن كل مؤسسي وأغلبية أعضاء جبهة التحرير الوطني التاريخية انشقوا عن مصالي، ورضعوا الوطنية على يديه، لكنهم اختلفوا معه في 1954، فروّجوا لخطاب تخويني ضده ومحوا نضالاته من أجل استرجاع الأمة الجزائرية استقلالها، بل منع بومدين دفنه في الجزائر بعد وفاته في المنفى في 1974 لولا بعض الضغوط الشعبية، فاضطر للسماح بدفنه ليلا بمسقط رأسه تلمسان، مات وهو ينشد السلطات إعطاءه بطاقة الوطنية وجواز سفر الدولة الجزائرية التي كرس حياته كلها من أجل بعثها من جديد.لكن هذا الخطاب التاريخي المصالي مقموع بشكل أكبر مقارنة بخطاب المعارضة، لأن كلا من السلطة والمعارضة ضد مصالي، وتربوا على ذلك رغم أن الكثير منهم رضعوا الوطنية على يديه، فقلما نسمع برموز المصاليين أو كتابات عنهم، فكم هم الذين يعلمون أنه خطط لإشعال فتيل الثورة في 1 جانفي 1955 لكن سبقه ”الأفالانيون” لدرجة شك البعض بأنهم تعمدوا ذلك، كي يتم إلقاء القبض على أنصاره لأن السلطات الاستعمارية ستعتقد أنهم وراء عمليات 1 نوفمبر 1954؟ كم هم الذين يعلمون أن الكثير التحقوا بالثورة معتقدين أن مصالي هو مفجرها؟ كم هم الذين يعلمون عدد شهدائهم أثناء الكثير من العمليات التي نسبت للأفالان بفعل الدعم الإعلامي القوي الذي يتلقاه خاصة من مصر والشيوعيين في أوروبا؟ من يعلم أن المصاليين تعرضوا للحصار الدولي بسبب تحالفهم مع مجموعات تروتسكية مطاردة والتي يقربها مصالي أيديولوجيا؟ لكن من يحاول الاقتراب من تاريخ المصاليين والدفاع عنهم سيتعرض للحصار حتى في عهد التعددية، كما وقع مع المؤرخ رابح بلعيد الذي يمكن أن يؤاخذه البعض على مبالغته في الدفاع عن المصالية وعدم التزامه بالروح العلمية والأكاديمية في هذه المسألة.فلم يكن تخوين سعدي لمصالي في الحقيقة إلا ترديدا للخطابين الرسمي والمعارض حوله، كما أن انتشار ظاهرة التخوين في بعض الخطابات التاريخية سببها أن السياسي والفاعل التاريخي هو الصاخب أكثر والمسموع الكلمة على حساب المؤرخ الأكاديمي، ولا يمكن لنا التخلص منها إلا بإبعاد التاريخ عن السياسة وصراعاتها وجعله في أيدي الأكاديميين، لكن من المحتمل أن يكون موقف سعدي من مصالي نابعا من قراءته لأزمة 1949 وتحميله مصالي مسؤولية تعقد أزمة الهوية التي تعيشها جزائر اليوم، والتي تعود إلى ما يسميها البعض ”الأزمة البربرية” ويطلق عليها آخرون ”الأزمة ضد البربرية”، وقد اعتبرتها في كتابي ”دعاة البربرية في مواجهة السلطة” كجذور لـ”التوظيف السياسوي للهوية” الذي مازال سائدا إلى اليوم، وعادة ما تبرز مسألة الهوية بقوة أثناء الأزمات الحادة داخل النظام، وعادة ما توظف إبعاد الخصوم، ولا يستبعد أن يكون ما يطرح هذه الأيام تباعا حول مسائل الهوية كالدين والذاكرة واللغات هو تعبير عن صراع وأزمة خانقة. وقد طرح مصالي مسألة الهوية داخل حزب ”حركة انتصار الحريات الديمقراطية” في 1949 بهدف توظيفها سياسويا للتخلص من معارضيه، خاصة دباغين والمنظمة الخاصة، ويرى البعض أنه تأثر بعبد الرحمن عزام الذي حاول نشر فكرة القومية العربية في مصالي، كما طالبه بطرح القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، وسيلقى الدعم العربي هناك، ويبدو في الظاهر أنه قد وقع تحت تأثيره، لكن من حق المؤرخ أن يسأل هل كان ذلك تكتيكا منه لإيجاد دعم للقضية الجزائرية من العرب في المشرق؟ وهل فعل ذلك تحت تأثير وابتزاز القوميين العرب في المشرق له، كي تجد القضية الجزائرية دعمهم في هيئة الأمم المتحدة؟ لكن يبدو أن حتى مصالي ذاته قد وظف هذا الاستفزاز الغريب والمفتت للحزب الوطني وللأمة الجزائرية بهدف إبعاد الكثير من الوطنيين الراديكاليين الذين كانوا يطالبونه بالإسراع في إشعال الثورة، لكنه كان يتماطل معتقدا أن بإمكان تحقيق ذلك سياسيا متأثرا بعبد الرحمن عزام.نعتقد أن تهجم البعض على سعدي لا يعود إلى تناوله مصالي أو بومدين أو بوصوف أو بن بلة، بل محاولة تشويش وزرع غموض وتحريف للنقاش حول مسألة خطيرة يصر سعدي وابن الشهيد عميروش على طرحها والتحقيق فيها وتفسيرها، وهي اكتشاف رفات الشهيدين عميروش وسي الحواس مرمية في مخزن قيادة الدرك الوطني في 1983 وتحميلهما بومدين مسؤولية ذلك، إضافة إلى طرحه في الطبعة الأخيرة لكتابه حول عميروش مسألة أخرى تقول إن الشهيد لطفي تم التخلص منه من طرف بوصوف وبومدين بنفس طريقة تخلصهما من عميروش وسي الحواسّ، حسب طرح سعدي في كتابه طبعا، واستند على شهادات ووثائق استقاها من المجاهد عبدالله بن بلال أحد الملازمين للطفي.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: